السبت، 7 مايو 2016

المخادع الأشهر: هان فان ميغرين؛ مزوّر يوهانس فيرمير.



(0)

كنت قد نويت في تشرين الأول/ أكتوبر من عام 2014م أن أكتب تدوينة عن برنامج شاهدته، بل بدأت بالفعل وكتبت ثلاث فقرات منها، ثم توقّفت. عدت لها قبل أيّام، لأنني واصلت مشاهدة البرنامج عينه، برنامج "Fake or Fortune?" الذي تنتجه محطّة بي بي سي، وأردت مُجدّدًا التدوين عنه. خلال سنتين استجدّ ما يحتّم علي تحديث معلومات قد كتبتها في هذه الفقرات، وحذف اثنتين، وهذا ما فعلته.

يتناول البرنامج في كل حلقة عملًا فنِّيًا؛ يستعرض أو يستكشف أصل لوحة يختلف الخبراء عليها ولمن تعود، وتاريخ مالكها وما إلى ذلك عن طريق التقنية الحديثة. شاهدت بعض حلقات البرنامج في 2014م، بشكلٍ غير مُرتّب، دون أن أشاهد الحلقة الثالثة من الموسم الأول، التي أدوّن عنها الآن، لو شاهدتها ربّما لما تأخّرت التدوينة حتّى اليوم! حلقة رائعة، رغم هذا اعتمدت في معظم هذه التدوينة على مصادر أخرى غير الحلقة. حاولوا خلال الحلقة معرفة  ما إذا كانت اللوحة التي يُقال أنها لفنّان مجهول من القرن السابع عشر تعود في الأصل إلى مزوّر اللوحات الأشهر في التاريخ فان ميغرين أم لا. وبالمناسبة، أنا أحب هذا النوع من المخادعين. أمّا لماذا وضعوا احتمال أن تكون له؟ فلأنها كانت لديه وقال بأن زوجته ابتاعتها من محل لبيع "الأنتيكات".


(1)

تُقدَّم الحلقات فيونا بروس، صحفية ومذيعة أخبار ومقدّمة برامج في محطة بي بي سي منذ 1989م، وفيليب مولد، تاجر لوحات ومؤرخ فنّي وصحفي ومقدّم برامج وكاتب، مختصّ بالبورتريهات البريطانيّة، له اكتشافات فنيّة هامة، أتمنّى أن أدوّن عنها يومًا، وبندور غروسفينور، تاجر ومؤرخ فنّي أيضُا، له اكتشافات هامة لأعمال مفقودة لفان دايك وغينزبرة وغيرهما، وهو أيضًا صحفي وكاتب ومقدّم برامج. أُنتج من برنامج "Fake or Fortune?" حتى الآن أربع مواسم (تحديث ٢٠٢١: تسع مواسم)، بدأ موسمه الأول عام 2011م، تتألف من خمس عشرة حلقة، سيعود أيضًا في موسمٍ خامس يُعرض صيف هذا العام.


(2)

The Procuress.
في طريقهما إلى متحف كورتلد للتعرّف على من رسم لوحة يقال أنها تعود إلى القرن السابع عشر، نسخة لرسام مجهول من لوحة  "The Procuress" للفنّان ديرك فان بابورين. تحدّث فيليب عن مزوّر اللوحات الأشهر في التاريخ، فان ميغرين واحتماليّة أن هذه اللوحة قد تكون من اللوحات التي رسمها وشاعت على أنها لرسّامي القرن السابع عشر، وأن عليهما أن يضعا هذا الاحتمال في الحسبان ويقارنوا اللوحة مع الأعمال التي قد اكتُشف أنها لميغرين أو التي قد اعترف بها، قد نسيت.


(3)

Han Van Meegeren - هان فان ميغرين.
هان فان ميغرين (تشرين الأول/ أكتوبر 1889م- كانون الأول/ ديسمبر 1947م.) رسّام هولندي يعد أذكى مزوّري اللوحات في القرن العشرين. أبدى في صغره إعجابًا بفن العصر الهولندي الذهبي وحماسةً له، التقى في الثانويّة بالأستاذ والرسّام بارتوس كورتلينغ الذي صار مرشدًا له، بارتوس الشغوف بفيرمير علّم ميغرين كيف كان فيرمير ينتج ألوانه ويخلطها، كما علّمه تقنيات الرسم في القرن السابع عشر، إذا كان مولعًا بالفن في عصر هولندا الذهبي، مزدريًا في الوقت ذاته الحركات الفنّيّة التي عاصرته مثل الانطباعية والتكعيبية والسريالية، الأمر الذي أثر في ميغرين وجعله متمسّكًا بأساليب الرسم في العصر الهولندي الذهبي. درس تبعًا لرغبة والده الهندسة المعماريّة لكنه لم يواصل دراسته، درس الفن لاحقًا وحصل على شهادة الدبلوم في عام 1914م. الشهادة التي مكّنته من تدريس الفن والرسم ومن الحصول على وظيفة مساعد لأحد البروفيسورات الذين يعملون في مجال تاريخ الفن. كما رسم ملصقات وبطاقات وصور دعائيّة وبورتريهات ليزيد من دخله إذ لم يكفه الراتب الذي يحصل عليه من عمله مساعدًا. في منتصف عشرينيّات القرن العشرين بدأت أعماله المشابهة لأعمال مبدعي القرن السابع عشر بلفت انتباه النقاد المتحمّسين للحركات الفنيّة الجديدة آنذاك، كالتكعيبيّة والسريالية، حيث هاجموه وشرعوا في التقليل من موهبته باعتباره موهوب في نسخ وتقليد أساليب القرن السابع العشر، تحدّثوا عن امتلاكه تقنيات الرسم دون أصالة الفنّان. أغضب هذا ميغرين، وأشعره أن حياته المهنيّة قد تدمرت، كما ساءه أن عبقريّته لم تُقدّر. رغم أنه كان يرسم لوحات أصيلة في الوقت الذي رسم فيه نسخ موقّعة باسمه من لوحات مبدعي القرن السابع عشر، مثل رسمته المعروفة لأيّل الملكة جوليانا، عندما كانت أميرة في العاشرة، حيث لاقت قبولًا وشيوعًا في هولندا آنذاك، وطبعت بأعداد كبيرة، حتى قيل أن واحدًا من كل خمسة بيوت في هولندا يحمل على أحد جدرانه نسخة منها. بحسب ميغرين، قرّر حينها أن ينتقم من النقاد وعالم الفن بخداعهم، كما أراد أن يثبت استطاعته: "ليس فقط فيما يخص نسخ أسلوب أساطين هولندا في لوحاته، إنّما انتاج عمل فنّي عظيم قد يضاهي أعمال أساطين الفن." وحينها بدأت الحكاية.


(4)

انتقل هان فان ميغرين إلى جنوب فرنسا، وبدأ يستعد لهذا المهمة. ألقى نظرة على أعمال العديد من رسّامي العصر الذهبي، واستقر على يوهان فيرمير. مع هذا لم يقتصر على فيرمير وحده فقد جرّب تزوير لوحات لآخرين. كان فيرمير يعمل ببطء، وبأصباغ مميّزة وباهضة الثمن، لم تعرف له سوى خمسة وثلاثين لوحة فقط، الأمر الذي جعل المؤرخين يتساءلون عن بقيّة لوحاته. أمضى ميغرين ست سنوات (من 1932 إلى 1937) في دراسة أسلوب فيرمير وتقنياته في الرسم وصنع الألوان وخلطها ومظهر ضربات فرشاته، وصناعة الفرش من حيوان الغرير، الفرش التي كان يستخدمها فيرمير، كما درس حياته الشخصيّة أيضًا. ابتاع ميغرين لوحات زيتيّة –كانفاس- تعود إلى القرن السابع عشر، إذ أول ما يقوم به الخبراء النظر إلى حالة اللوحة إن كان قماشها حديثًا أم لا، قام بتقشير الأصباغ الأولى حتى لا تظهر اللوحة الأساسية على القماش حين فحصها بالأشعة السينيّة، صنع ألوانه من المواد الخام التي كان فيرمير يصنع منها ألوانه، كما صنع فرشاته من شعر حيوان الغرير كما كان أساطين القرن السابع عشر يفعلون، متجنّبًا أيًا من الأدوات الحديثة حينها. بقيت معضلة واحدة: كيف يزوّر عمر اللوحة؟ كيف يجعل لوحة عمرها شهر تبدو مثل لوحة عمرها ثلاثة قرون؟ خاصةً أن الألوان الزيتيّة تحتاج إلى عقود حتى تجف وتكون بالصلابة الكافية لتدل على قِدمِها. كيف يصمد أمام اختبار مسح اللوحة بقطنة مبلّلة بالكحول؟ الاختبار الذي لا يجتازه إلا اللوحات القديمة، إذ وحدها من تحتفظ معها قطعة القطن ببياضها. 

اشترى ميغرين فرن بيتزا، ووضع محاولاته الأولى فيه، كانت اللوحات إمّا أن تحترق أو تذوب ألوانها وتمتزج. بعد محاولات وصل إلى طريقة ناجحة: خلط ألوانه بمادة فينول فورمالدهايد، الأشبه بالبلاستيك المذاب، لتجعلها صلبة، ثم "خبز" لوحته بعد أن اكتملت في الفرن بحرارة 212-248 فهرنهايت، ثم مرّر عليها نشّابة بعد ذلك ليحدث أثر يشبه الصدوع. الآلية التي توصّل إليها كانت رائعة، مبتكرة، أفضل ما قام به مزوّر على الإطلاق، الآلية التي أنتجت لوحات مقنعة للغاية وصمدت أمام كل الاختبارات آنذاك.

اتّفق أغلب مؤرخي ونقاد الفن على أن لفيرمير خمس عشرة لوحة –على الأقل- مجهولة. من هنا جاءت الشرارة الأولى. عندما نجح ميغرين في الوصول إلى آلية التزوير المناسبة، كان لديه خيار أن يرسم في نفس نطاق ثيمات وأماكن وأشخاص فيرمير المعهود، الأمر الذي قد يثير الشبهة، أو أن يخرج عنه مع الاحتفاظ ببصمة فيرمير، الأمر الأكثر صوابًا حتى لا يثير الشكوك، إذ كان البقاء في ذات النطاق هو الفخ الذي وقع فيه العديد من المزوّرين الذين قد أُطيح بهم.


(5)

عشاء في عمواس - هان فان ميغرين، 1937م.
(مزيّفة نسبها إلى فيرمير)
هكذا أنتج ميغرين لوحة المزوّة الأولى "عشاء في عمواس- Supper at Emmaus." بتوقيع فيرمير عام 1937م. كان فيرمير يقدّر لوحات الإيطالي كارافاجيو، بخاصة لوحته "عشاء في عمواس."، اللوحة التي اتّخذها ميغرين نموذجًا عندما أنتج لوحته. وجدت اللوحة طريقها إلى ناقد فني ومؤرخ بارز ومسموع الرأي ومُقدّر، د. أبراهام بريديوس، على أنها قادمة من عائلة عريقة هولندية تعيش في إيطاليا، يضطهدها الفاشيّون وتمر بضائقة مالية اضطرتها لبيع اللوحة حتى تتدبّر أمر هروبها من البلاد، ولا تودّ أن تفصح عن نفسها. بريديوس "خبير فيرمير" قال أن لا شك مطلقًا بأن اللوحة من أعمال فيرمير، بل إنها تحفته بالنسبة له. بهذا الاقرار من بريديوس، تسابق الأثرياء والمؤسسات على اللوحة، حيث بيعت بما يعادل الأربعة ملايين دولار، وعُلّقت في أحد المتاحف في هولندا. بمردود اللوحة الأولى ابتاع ميغرين ممتلكات ولوحات أصليّة زيّنت جدرانه. استمر في إنتاج اللوحات المزيّفة على مر السنوات –اكتُشف منها واحدة وعشرين-، وحقق منها قرابة ثلاثين مليون دولار أمريكي بحلول عام 1943م. واصل عمله حتى تورّط في بيع لوحة على النازيين جعلته "يهلّ السبحة".


(6)

ميغرين يرسم اللوحة المزيّفة الأخيرة بأسلوب فيرمير ليثبت براءته.
كان الجنرال النازي هرمان غورينغ مولعًا بالفن، وقد بدأ باقتناء لوحات ثمينة خلال الحرب العالميّة الثانية، كانت إحداها لوحة ""Christ with the Adulteress لفيرمير، علقها في بيته وتباهى بوجود مثل هذه الجوهرة النادرة ضمن مجموعته. حين أطاح به الحلفاء في نيسان/ إبريل من عام 1945م، عثروا على كم هائل من اللوحات التي تعد بمثابة ثروة وطنيّة لبلادهم ضمن ممتلكاته، من بينها لوحة فيرمير هذه، ووجدوا في سجلاته اسم الوكيل الذي قد ابتاعها منه، وحين استجواب هذا الوكيل أفاد بحصوله على اللوحة من ميغرين. كانت اللوحات في وقت الحرب قد أُنزلت عن جدران المتاحف وحفظت في أماكن سريّة حتى لا تتعرّض للنهب، وتهريب أي لوحة وبيعها على العدو بمثابة خيانة وتعاون مع العدو حكمه الاعدام. حين سُئل ميغرين عن المصدر الذي أخذ عنه اللوحة لم يرد الاعتراف بأنه مزوّر وأن اللوحة تعود له لا لفيرمير، لكنه اضطر إلى الاعتراف حين اعتبروه ممّن نهب ثروات البلاد لصالح النازيّة. حيث اعترف في أيار/ مايو من عام 1945م بأنه مزوّر قائلًا أن اللوحة التي وجدتموها لدى غورينغ لا تعود إلى فيرمير كما تعتقدون، إنّما لميغرين! قوبل اعترافه بالشك، بات ميغرين في وضعٍ حرج والتهم الموجهة إليه قد تقضي على حياته. كان عليه أن يثبت خداعه للنازي، ولهذا قدّم ميغرين عرضًا ليثبت براءته من الخيانة والتعامل مع العدو، طلب منهم أن يحضروا أدواته وأصباغه ليزوّر لوحة أخيرة أمام شهود من القضاة والمؤرخين والنقّاد والمحققين ليُثبت براءته، وهكذا رسم لوحته الأخيرة لفيرمير خلال ستّة أسابيع، بجودة ومهارة لوحاته السابقة، وبذات الآليّة، وهي اللوحة التي بيعت لاحقًا بما يعادل سبعة آلاف دولار. سقطت عنه هذه التهم إنّما وُجِّهت إليه تهمة جديدة؛ التزوير والاحتيال. في محكامته الثانية في تشرين الأول/ أكتوبر من عام 1947م حُكم عليه بالسجن سنة، لكنه توفي قبل أن يدخل السجن لقضاء محكوميّته بسكتة قلبيّة.

صرّح ميغرين في محاكمته أن عدم تلقيه التقدير والاعتراف من النقاد والفنّانين دفعه إلى التزوير ليثبت قيمة أعماله. كانت الأعمال التي اعترف بتزويرها حاضرة في قاعة المحكمة، على رأسها اللوحة الأولى، الأشهر والأكثر قيمة "عشاء في عمواس"، حيث أشار إليها قائلًا:


"بالأمس، كان ثمن هذه اللوحة ملايين الغيلدرات –غيلدر: العملة الهولنديّة-، يأتي الخبراء ومحبّي الفن من كل العالم ويدفعون المال لرؤيتها. أمّا اليوم فلا تساوي شيئًا، ولن يعبر أحدهم الشارع ليراها مجانًا. لكن الصورة لم تتغيّر، ما الذي تغيّر؟"

 
كما أضاف أيضًا أنه تعمد خداع النازي في سبيل استعادة ثروات وطنيّة –لوحات- منهوبة، وتحوّل بذلك لدى الناس والصحافة من خائن إلى بطل قومي خدع النازي وجعله أضحوكة، متغاضين عن خداعه للبقيّة. لم تفقد أعمال ميغرين المزوّرة قيمتها كليًا، حيث احتفظت ببعض القيمة كونها أعمال من احتال على المارشال غورينغ، خاصةً في الولايات المتّحدة الأمريكيّة، ومن هذه القيمة بدأت محاولات رديئة لتزوير أعمال ونسبتها لميغرين، من بين من قام بها ابنه هو.


(7)

في لقاء أجراه ميغرين قبل وفاته، قال أن دوافعه نابعه من طفولة مكبوتة، كما أضاف أن والده قد قال له مرةً: 

"أنت محتال، وستظل دائمًا محتالًا." 

يُعتقد أن توجّه ميغرين للتزوير كان لأسباب مادّية، وأن دفاعه الذي قال فيه أنه أراد أن يلقّن النقاد والمؤرخين درسًا ويسخر منهم، كما أنه أراد خداع النازي غورينغ ليس إلا اختلاق. 

أتعمّد ذلك أم لا، سخر ميغرين حقًا من الطريقة التي يمنح النقاد بها القيمة للعمل الفنّي، فهم كما قال لا ينظرون لخطوط اللوحة إنما للتوقيع، لا ينظرون إلى قيمة موضوعها بل إلى شهرة مبدعها، وحينها يقرّرون إذا ما كانت عظيمة أم لا، كما أثار الشكوك لدى الكثيرين فيما يتعلق بأصالة اللوحات المعروضة في المتاحف أو تلك الموجودة في المجموعات الخاصّة ببعض الأثرياء.

لم يعترف ميغرين بكل ما زوّر، وأحدث اكتشاف للوحة خدع العالم بادعاء أنها تعود للقرن السابع عشر كان في 2011م، في هذه الحلقة –هنا للمشاهدة على يوتيوب- التي دفعتني إلى هذه التدوينة. أمّا كيف حسموا أنها له؟ فالتحليل الكيميائي للألوان التي أخذوها من اللوحة أظهر وجود مادة فينول فورمالدهايد، والمادة لم يحتج إليها ويستخدمها سوى ميغرين المخادع بالطبع.


(8)

وصلنا إلى نهاية التدوينة، للمزيد هذا فيلم قصير جدًا بترجمة إنجليزيّة حول ميغرين فيه لقطات من المحاكمة، هذه تدوينة من مدوّنة أفكار وخواطر -بالعربيّة- عن ميغرين، وأيضًا فيما يلي بعض المقالات التي تطرّقت إليه وكانت التدوينة من بعض فقراتها- بالإنجليزيّة-:

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق