(٢٣)
«ماذا لو أغراك صوب البحر،
يا سيّدي اللورد
أو إلى قمّة المنحدر الصخري المرعبة
تلك المعلّقة على قاعدتها في البحر
وهناك ينتحل شكلاً مخيفاً آخر،
قد يجرّدك من السيطرة على عقلك
ويسحبك قريباً من الجنون.
فكّرْ في ذلك.
المكان وحده دون باعث آخر،
يضع في كلّ دماغ حوافز للانتحار
إذا هو نظر إلى مسافات بعيدة في البحر
وسمع هديره من الأسفل.»
- مقطع من مسرحيّة «هاملت، الفصل الأول - المشهد الرابع» يحاول فيه هوراشيو أن يثني هاملت عن اللحاق بالشبح، بترجمة صلاح نيازي، مقتبس من مقالته «دور المنظوريّة في تضخيم الرعب».
(٢٤)
كنت قد وقفت قبالة البحر لأول مرة قبل قراءتي لهذه المقالة بسنوات، ولمع في ذهني حينها شيء وحيد: كيف يقاوم الإنسان، خاصة إذا ما كان على مرتفع من البحر، القفز فيه؟ ليس لهذا علاقة بأي أفكار انتحاريّة، بدا لي كأن القفز هو السلوك الطبيعي في مواجهة البحر وشعرت لوهلة أنني أود ذلك. لم أعرف كيف بدأت هذه الأفكار في ذهني. لكنني انتبهت الآن وأنا أكتب هذه التدوينة أنني قرأت «هاملت» في وقت مبكّر قبل أن أعرف شكسبير حتى، وقبل أن يضطرني نشاط لمادة اللغة الإنجليزية في الصف الثالث المتوسط إلى قراءة نسخة مبسطّة ومحدّثة من المسرحيّة. صادفت المسرحيّة مترجمة خلال تصفحي لموقع «tipsclub» لتحميل الكتب، كنت أحمّل منه كتبًا عشوائية وأقرأها حينذاك. يبدو أن بداية الفكرة جاءت من هناك، من قراءتي الأولى لهاملت. لكن ليست تلك المرّة الأولى التي أشعر فيها أن الانغماس في خطرٍ ما هو رد الفعل العفوي الفوري، أعني في مواجهة البحر هذه المرة، فقبلها كلما فتحت نشّافة الغسيل ذات الفوّهة العلويّة شعرت برغبة شديدة في مد ذراعي داخلها، وهو عين ما حذّرتني أمي منه منذ بدأت غسيل ملابسي بنفسي في سن العاشرة وقالت لي أن ذراعي ستُكسر في النشافة إن فعلت، مع هذا فعلتها مرّة، لكن والنشافة بطيئة توشك على التوقف، مع ذلك التفّت الملابس عليها وضربت في الحافّة وآلمتني بشدّة. ما أزال حتى اليوم، كلما استخدمتها فتحتها قبل أن تكمل دورتها وتتوقف، وأنا أفكر في مدّ ذراعي ثانية، لكن بالطبع لم أعد أجرؤ بعد تلك المرة.
بحثت بعد زيارتي للبحر في الإنترنت عن المسألة، لكنني لم أجد شيئًا، ولم أعرف أنها ظاهرة قد دُرست لمرتين وحسب وتدعى «ظاهرة الأماكن المرتفعة - HPP» -المرة الأولى في ٢٠١١ والثانية في ٢٠٢٠، أتطرّق للدراستين في فقرة (٢٦) من هذه التدوينة -، أو ربّما أن مهارتي في البحث حينها قصرت عن منحي أي نتيجة. لكنها عادت إلى ذهني هذه الأيام حين بحثت عن موضوع يخص التعامل مع بعض مواقف الطريق، فمرّ بي تحذير: لا تحدّق في أي جسم على الطريق، ستقود باتّجاه ما تنظر إليه، ولأنني خبرت هذا مرّة أو اثنتين، أثار التحذير اهتمامي فتركت ما بدأت البحث عنه وتحوّل الأمر إلى البحث عن هذا التحذير والظاهرة المرتبطة به.
(٢٥)
يطلق مصطلح «fixation Target» في الإنجليزيّة على ظاهرة الانهماك في التركيز على جسم -هدف- إما لإصابته أو لتجنّبه إلى حدٍ ينتج عنه الاصطدام بهذا الهدف نفسه، وراحت تعني في الثقافة المتداولة انكباب الإنسان على ما يودّ اجتنابه. بدأت ملاحظة هذه الظاهرة في الحرب العالمية الأولى، حيث اصطدم طيارون حربيّون بالأهداف بدلًا من قصفها والتحليق بعيدًا عنها. ينتج هذا بسبب التركيز الشديد على الهدف مما يحجب الوعي بالمعطيات الأخرى ومعالجتها.
تنطبق هه الظاهرة على قائدي المركبات في حال السرعة، خاصةً في المواقف الخطرة حين يظهر فجأة جسم متحرّك باتجاههم على الطريق، أكان مركبة أخرى أو حيوان، أو حتى عند انتباههم المفاجئ للمنحدرات، فيهلع قائد المركبة، ويحدّق في الخطر بتركيز متزايد حتى ينكبّ عليه ثم … طخ!
لا يحدث هذا عند الهلع وحسب، بل حين ينتبه القائد أيضًا إلى جسم يلفت انتباهه، كحادث وقع أمامه على الطريق -حينها من المحتمل أن ينضمّ إليه ما لم يحاذر!-، وكالسيّارات التي تقف على كتف الطريق وتثير فضوله ثم لا يحوّل انتباهه عنها، فيصطدم بها. لذا نجد نصيحة متكرّرة لقائدي المركبات: لا تقف على كتف الطريق إلا مضطرًا، لمشكلة تمنعك من مواصلة القيادة، ارتد حزام الأمان إن بقيت في السيّارة، وإن أمكن أن تترجّل منها فقف بعيدًا عنها في مكان لا يخفيك، إذ لأنك لا تشكل خطرًا على السيّارات ولا تستدعي انتباهًا فمن غير المرجح أن تكون الجسم الذي يوقع القائد في الفخ. لا تقف أمامها ولا خلفها ولا بجانبها بمسافة تسمح بتحقق ضرر عليك إذا ما اصطدم بها سائق تحت تأثير «التركيز على الهدف». تتكرّر الظاهرة بدرجة أعلى لدى سائقي الدرّاجات، إذ يتحكم الجسد بأكمله في حركة الدراجة، فتتجه بهم حيث يحدّقون. مرّ بي أن أحد أولى المبادئ التي يعلّم عليها سائق الدراجة: انظر حيث تريد الذهاب.
شرين عبد الحليم. |
ليس لردة الفعل هذه علاقة بالكفاءة، ولا بالذكاء، ولا التمكّن، ولا الخبرة، فهي تصدر عن ممارسين أكفاء ذوي خبرة في لحظات ما من حياتهم، تعتمد نجاة المرء منها على خطورة الموقف، لكنها قد تكون قاتلة. الحديث عن هذه الظاهرة من الخارج يبدو سهلًا: لا تحدّق في الخطر وامض بعيدًا، لكن معايشتها أمر آخر. تُعزى هذه الظاهرة إلى استجابة «الكر والفر - Fight or flight » الغريزيّة لدى الإنسان، فهو إذا ما حدّق به الخطر المميت إما يقاتل أو يهرب -أو يتجمّد مكانه-، لذا في مثل هذا الوضع، يجد الإنسان الميّال إلى استجابة القتال نفسه مدفوعًا إلى ما يهدّده، وإذ يستلزم القتال أن يتثبّت من الهدف فهو لا يغادره بعينيه، سيثمر هذا ربّما في مواجهات لا بد من القتال البدني فيها، لكن مع المركبات؟ أبدًا، بل عليه بالطبع أن يتصرّف بذكاء ويتدرّب قليلًا على استجابة الهرب قبل أن يتعرّض لمثل هذه المواقف ويتصرف وفق ما تمليه فطرته المهلكة.
(٢٦)
درس علماء نفسيّون من جامعة فلوريدا الحالة التي تصيب الإنسان حين يقف على مرتفع ويرغب في الإلقاء بنفسه لأول مرة في عام ٢٠١١ وأسموها «ظاهرة الأماكن المرتفعة - High Place Phenomenon». توصّلوا في هذه الدراسة إلى أنها ظاهرة لا يمكن أن توصف بالنادرة، إذ شعرت نصف العينة تقريبًا بهذا الشعور، كما لا تدل بالضرورة على ميول انتحاريّة كما يُعتقد -أكدت هذه النتيجة هذه الدراسة التي عقدت في ٢٠٢٠-، بل هي على العكس تنجم عن تأويل إشارة طلب الأمان بالهرب من الخطر تأويلًا خاطئًا. قد تكون طريقة الدماغ المعقّدة التي يعبر بها عن رغبته في الحياة. وخلصوا إلى أن الظاهرة منتشرة عند ذوي الميول الانتحارية وغيرهم على السواء. تقول الباحثة أبريل سميث، وهي من القائمين بهذه الدراسة، أن هذه الظاهرة تحدث بسبب خلل في التواصل يصيب أدمغتنا، فبعض أنظمة الدماغ تعالج المعلومات بسرعة تفوق غيرها وخارج مدى وعينا. لذا ربّما حين نقف على مرتفع، ترسل أدمغتنا إشارة إنذار - كي نحذر، فيقودنا هذا إلى التراجع خطوة إلى الوراء أو الانتباه لما يحيط بنا. عندها نسيئ قراءة ما حدث، نجد أنفسنا في مأمن فنتساءل لم تراجعنا خطوة ولم نكن نوشك على السقوط؟ لم الردع بينما لا يوجد ما يدعونا للخوف؟ وهكذا يقول المرء لا بد أنني هممت بالقفز! لا شيء أكيد في دراسة هذه الظاهرة غير تأكيد شيوعها، أما تبقى فمحاولات لتفسيرها.
ولأن رغبة الانغماس في المهالك لا تقتصر على القفز من المرتفعات، فهي حاضرة مع كل خطر يحدق بالإنسان، أكان وقوفه على جرف أو أمام سكة قطار قريب أو عند الاقتراب من النار وغيرها من الأمور التي تهدّد سلامته -أو في حالتي: نشّافة الملابس، يبدو أنني خفت كثيرًا نتيجة تحذيرات أمي-، فقد عُرفت أيضًا باسم آخر، شاعري وجذّاب: «نداء الفراغ».
(٢٧)
تنطلق الظاهرتان ربّما من غريزة واحدة، غريزة البقاء التي تقودنا إلى ميكانيكيّة الدفاع البدائيّة التي ورثناها عن أسلافنا «الكرّ والفر»، فاستجابة الهرب التي يساء تأويلها عند الشعور بنداء الفراغ، وسوء تقدير الاستجابة الملائمة حين تستيقظ فينا هذه الغريزة هو الذي يدفع قائد المركبة أو الدرّاجة إلى الانكباب على الخطر عند مواجهة أجسام تتجه إلينا في الطرقات. أفكر الآن أن من غير الممكن تفسير انكباب الفراشات على النار في ضوء سوء تقدير الاستجابة الذي يصيبنا، لكن ما دمنا قد أوّلنا سلوك الفراشات ولعًا بالنور، فما الذي يمنعنا من أن نعزوه لهذا أيضًا؟ :p
(يخطر لي الآن البحث عن سلوك الفراشات الذي يقودها إلى نهاية مؤلمة، لكن كفى فضولًا لهذا اليوم، كما لا أود أن تفسد المعرفة فكرة شاعريّة أحبها عن احتراق الفراشات.)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق