الأربعاء، 6 أغسطس 2014

العطرشاء في الفن التشكيلي.




 
بورتريه لغوخ يظهر فيه كأس العطرشاء على الطاولة. Portrait of Vincent van Gogh - 1887
By:Henri de Toulouse-Lautrec

(0)


نبتة العطرشاء أو أفسنتين، يُسمى الشراب المستخلص من تقطيرها باسمي النبتة السابقين أو الجنيّة الخضراء. كانت العطرشاء هي الشراب الكحولي الأكثر شيوعًا في القرن التاسع عشر ويُعزى لها كونها ملهمة الفنانين والأدباء لما تسببه من هلاوس وبروز اللاوعي إلى الواجهة وكان ممّا تسببه أيضًا: النسيان وفقدان الوعي والسلوك الشاذ. تعاطاها وأدمن عليها الكثير، مثل ڤان غوخ، شارل بودلير، أوسكار وايلد، ﭙول ڤارلين، آرتور رامبو، غي دي موﭙسان، وإرنست هيمنغواي وغيرهم الكثير، رسموها وكتبوا عنها، وقد شبّه أوسكار وايلد شاعرية كأس من العطرشاء بشاعرية غروب الشمس. الخامسة مساءً عُرفت في باريس بالساعة الخضراء، الساعة التي يتوافد فيها الفنانون والكُتّاب على المقاهي التي تملأ أقداحها بالخمر الأخضر. وحتى لا أبدو مُشجّعة لتعاطي الكحول لن أتطرق للأدبيات التي دعت لشرب العطرشاء. ( :

"عزيزي جوني نيل، حدّد قلمك الرصاص. ارتشف العطرشاء المخفوقة وحاول أن تتخيّل هذه الشخصيّة في "فزّاعة أوز." إنها أورك، شخصية بارزة إلى حد كبير في القصة."

- من مؤلف سلسلة أوز: ليمان فرانك بوم، إلى رسّام السلسلة.


ليس بوم وحدة، ولكن العديد من مبدعي القرن التاسع عشر كانت لهم النظرة ذاتها للعطرشاء، أنها تُلهم وتُحرّر اللاوعي – الحس الإبداعي اللازم للفنان والكاتب لينتج أعماله. في هذه الحلقة يتناول الروائي والشاعر ميشيل روبرت تاريخ العطرشاء وتأثيرها على الفن والأدب.



(1)

The absinthe drinker - Edouard Manet


شارب العطرشاء – إدوارد مانيه. 1859م.

تحدّثت في تدوينة (إدوارد مانيه وشارلبودلير؛ تيمة واحدة في عملين) عن هذه اللوحة. بقي أن أضيف أنه وبحسب الفتى ليون، فإن لوحة مانيه لم تكن كما هي الآن حينما قدّمها أول مرة لصالون باريس. حيث لم يرسم القنينة والكأس ولا الساقين. في وقتٍ لاحق وقبل عرضها مع الأعمال المرفوضة قام مانيه بخياطة قماش قنب إضافي إلى اللوحة من أسفل ليضيف الساقين، ورسم أيضًا بقية تفاصيل اللوحة.



(2)
 
The Absinthe Drinker - Edgar Degas

في المقهى/ شارب العطرشاء – إدغار ديغا. 1876م.

كان عنوان اللوحة "في المقهى" حين ظهرت أول مرة وقد عُورضت من قبل النقاد في فرنسا، ثم غابت إلى أن عُرضت في إنجلترا مجدّدًا عام 1893م. وصار العنوان "شارب العطرشاء". تصوّر اللوحة امرأة ورجل بالرغم من جلوسهما جنبًا إلى جنب إلى أنه لا تواصل بينهما، تعطي اللوحة انطباعًا بالعزلة والوحدة والأخدود الذي يتسع بين الإنسان والمجتمع المحيط. تبدو المرأة حزينةً تائهة، وكذلك بدا الرجل. "الجنون المعبأ" و"اللعنة الخضراء" كان هذا ما يطلقه عامة الفرنسيون على العطرشاء، نظرًا لتسببه بالهذيان وضعف الاتزان والتصرفات الجنونية التي يتصرفها متعاطوه. (يُرد أحيانًا سبب قطع فان غوخ أذنه لإدمانه.). في إنجلترا استُقبلت اللوحة بالكثير من الجدل، وكانت أيضًا بمثابة تحذير من الانحطاط الذي تجلبه العطرشاء بشكلٍ خاص وكل ما هو فرنسي عمومًا. حيث اعتُبرت المرأة بحسب جورج مور الناقد والروائي الإيرلندي ساقطة، إذ قال: "يا لها من ساقطة، الحكاية ليست شيئًا مسليًا، إنما درس." الأمر الذي ندم عليه لاحقًا وقال: "اللوحة عمل فني صرف، لا علاقة لها بالشرب ولا بعلم الاجتماع." والمرأة في اللوحة هي بالمناسبة صديقة لديغا وكانت ممثلة، والرجل صديق ورسّام أيضًا. اضطر ديغا لأن يُصرح بأنه طلب منهما أن يكونا شخصيّات اللوحة، دون أن يكونا مدمنين في الواقع، في سبيل إنقاذ سمعتيهما.



(3)

Absinthe - Vincent van Gogh


عطرشاء – ڤان غوخ. 1887م.

كان غوخ مدمنًا من الطراز الأول، يُقال أنه كان في إحدى نوباته الهذيانيّة إذ قطع أذنه. يصوّر في هذه اللوحة كأس من العطرشاء وقنينة ماء، إذ كانت العطرشاء تخفف بالماء ويُضاف إليها السكر لتقليل لذعة المرارة في طعمها.



(4)

Green Muse - Albert Maignan


إلهام أخضر – ألبرت ميغنان. 1895م.

في هذه اللوحة جسّد الفنان العطرشاء في امرأة خضراء، أو جنّية خضراء، بحسب الاسم الشائع للمشروب، وقد تمكّنت من الشاعر، ويظهر على الطاولة كأس العطرشاء الذي يبدو أنه قد ارتشف منه للتّو. لاحقًا، ويبدو أنه بناءً على هذه اللوحة، صوّر ڤيكتور أوليڤا تأثير المشروب على شكل امرأة خضراء.



(5)






شارب العطرشاء، أربع لوحات – ﭙابلو ﭙيكاسو. من 1901-1904م.

رسم بيكاسو هذه اللوحات في فترته الزرقاء، واحدة منهن بورتريه لصديقه آنجل فرناندز دي سوتو، اللوحة الأخيرة.



(6)
 
A glass of absinthe - Pablo Picasso


كأس من العطرشاء (منحوتة) – ﭙابلو ﭙيكاسو. 1914م.

تُعتبر هذه المنحوتة آخر الأعمال الشهيرة التي تناولت العطرشاء أو الأدوات المتعلّقة بها، إذ تتكوّن من الكأس والملعقة المُشَخّلَة التي تستخدم لتحريك السكر، وأخيرًا في الأعلى مكعّب السكر. كانت العطرشاء بمثابة الكوكائين ومُنعت منذ عشرينيات القرت العشرين تقريبًا في دول عدة من بينها فرنسا، المُستهلك الأكبر آنذاك لها. بالطبع ليست هذه هي الأعمال التي تناولت العطرشاء أو تأثيرها وأدواتها، لكنها الأبرز، وغيرها الكثير من لوحات وبوسترات.


الأحد، 3 أغسطس 2014

مساكن عمّال أرامكو من السعوديين: البركسات.



(0)


انتهيت قبل أسبوع ويزيد من الكتاب الأول لخماسية مدون الملح: التيه. ولست الآن بصدد تناول الكتاب. عندما تحدّث منيف عن حرّان (الظهران كما أعتقد)، حران الأمريكان وبيوتها ورفاهيّتها، حرّان العرب ناسها وجمالها والفلاة الرحبة، وبينهما "الأفران الخانقة" مساكن العمال، التيه والغربة الحقيقيّة. هذه المدينة الجديدة كما يقول منيف، في الوسط، المرحلة التي أُرغم عليها الناس هنا، ضُيّقت عليهم أرض الله الواسعة وضيقهم هذا "البركسات" لم يمتاز حتى بجهاز تكييف. وحتى تتكوّن لدي معرفة لا بأس بها لأواصل قراءة الخماسية، أقرأ هذه الأيام كتاب الحركة الوطنية السعودية – الجزء الأول، للمؤلف السيد علي السيد باقر العوامي، معاصر وشاهد على الأحداث. في كتاب العوامي، تناول أنواع مساكن الطبقات التي تعمل في أرامكو مع أحداث الحركة العمالية الأولى عام 1953م.، أقتبس فيما يلي أولًا ما قاله منيف عن المساكن في الرواية، ثم ما كتبه العوامي.



(1)

المدينة الجديدة، الواقعة بين حران العرب وحران الأمريكان، قريبًا من التلال وفي مواجهة البحر، بدأت بثلاثة بركسات كبيرة بنيت على عجل من الخشب والصفيح، أما الأرض فقد فرشت بالإسمنت، وأكد دحام ونعيم وهما يشرفان على انتقال العمال وتوزيعهم على البركسات "إنها مؤقتة، وبعد فترة سوف تبنى للعرب بيوت مثل بيوت الأمريكان.".

انتقل العمال إلى البركسات بعواطف متباينة أشد التباين، إذ نتيجة خصومات عديدة وقعت بسبب الخلاف على جلب الماء من الآبار، أو تنظيف الأرض تحت الخيام، إذافة إلى الضجة التي كان يحدثها لاعبو الورق، والتي كانت تمنع الكثيرين من النوم، لقرب الخيام بعضها من بعض، فقد رأس بعض العمال "إن البركسات مكان نظيف والماء على بعد خطوتين والبركس غير الخيمة.". أمّا آخرون فقد رأوا أن مجرد الانتقال من الخيمة، من هذا القبر، وبعدها لو عاش الإنسان في الفلاة، تحت السماء، يمكن أن ينقذهم من حالة الضيق التي بدأت تسيطر عليهم وتجعلهم متوتري الأعصاب سريعي الغضب. كانوا بحاجة إلى تغيير، ولا يهم بعد ذلك إلى أين. ورأى غيرهم أن المكان الذي اختاره الأميركيون وبنوا فيه البركسات هو أسوأ الأمكنة تمامًا، "لأن الإنسان لا يعرف هل هو في الجنة أو في النار، هل هو مع جماعته وبين أهله أم مقطوع في الفلاة.". إر رغم الضيق الذي يعاني منه الجميع فإن العودة كل غروب إلى حران العرب، والمرور بين البيوت والدكاكين، والحديث مع الناس، ورؤية الأطفال والكلاب والحمير والجمال، من شأن ذلك التخفيف من العذاب والصمت اللذين يسيطران طيلة ثماني ساعات في معسكر العفاريت. (...) إن رؤية عبد أو الجلوس قليلًا مع ابن نفاع، ثم سماع أخبار الدنيا من هؤلاء الذين قدموا حديثًا من عجرة أو من أمكنة أخرى، إن هذا يعادل، بنظر الكثيرين، ملكوت الأميركيين كله، خاصة وأن هذا المكان المعزول، وحوله الأسلاك، يجعل الإنسان يحس أنه في سجن حقيقي. 

(...) أما الذين فرحوا بالانتقال فقد شعروا بالخيبة، لأن الهواء الذي كان يلعب بالخيام، والذي يصبح عذبًا رقيقًا في الليل المتأخر، وعند الفجر، لم يعد له وجود في هذه العلب التي تصبح كأنها الأفران الخانقة، حيث تعبق بالحرارة ورائحة العرق والنوم. أما الجدران الخشبية البيضاء فقد تحولت خلال أسابيع قليلة إلى ألوان لا يمكن تمييزها بعد أن اختلطت وتداخلت بسبب الدخان والأيدي المعروقة والغبار، وأشياء أخرى. وأقسى شيء واجه العمال وسبب لهم ضيقًا لا يمكن مقاومته: سقوف الصفيح. لقد أصبحت هذه السقوف هي العدو الحقيقي، لأنها لم تكن تمطر حرارة فقط، كانت تصب موتًا رماديًا مصهورًا ومستمرًا منذ ساعات النهار الأولى وحتى أواخر الليل، وكانت أشد قسوة وأكثر عداء من وجوه الكثير من الأميركيين وتصرفاتهم ... .

وكان الضيق أقوى ما يكون حين يُنقّل العمال نظراتهم من جهة إلى أخرى، فيرون في جهة الشرق حران الأميركان: مضيئة، لامعة، ضاجة، وبدأت تكتسي بالخضرة، ويسمعون عن بعد أصوات الأميركيين وهم يصخبون في البرك، وهم يضجون بالغناء أو المرح، وفي بعض الليالي يطلقون الأسهم النارية الملوّنة فتملأ السماء، خاصة أثناء استقبال مجموعات جديدة. فإذا نظروا إلى جهة الغرب ورأوا بيوت أهل حران وقد انبعث منها الدخان عند الغروب، وامتلأت بأصوات البشر والحيوانات، وأخيرًا إذا نظروا إلى البركسات التي يعيشون فيها، وإلى هذه الحياة الجافة القاسية المعزولة، فعندئذ تدفق الذكريات ويزحم قلوبهم الحنين، ويجدون أسبابًا لا حصر لها للخصومة والحزن، وبعض الأحيان للبكاء.
-        عبد الرحمن منيف، التيه.


(2)


الطبقة الثالثة، أو الفئة الثالثة؛ فهي طبقة العمال العاديين – غير الفنيين- أو الكتبة من ذوي المراكز الصغرى، ويعرف بالحي العمومي (جنرال) كما يُسمى الحي السعودي؛ لأن كل سكان سعوديون، ويكوّنون الغالبية العظمى من عمال أرامكو، وهو –أيضُا، مثل الحي المتوسط- غرفه على هيئة بلوكات مستطيلة، ووسط كل "بلوك" أو "لاين" غرفة مطبخ مزودة بمواقد الغاز، ويسكن الغرفة شخصان، إلا أن الغرف غير مكيّفة، إنما فيها مراوح سقفية فقط. ويقع الحي السعودي بالظهران في منطقة وعرة وغير ممهدة، تحيطها بعض كثبان الرمال التي تنسفها الرياح داخل الغرف، مما يضطر سكانها إلى إغلاق الأبواب والنوافذ في أغلب الأوقات، وبذلك تصبح حارةً لا يطاق السكن فيها، ولا سيما في عز الظهيرة –أيام الصيف- ولا تجدي المراوح شيئًا، كما أنه يقع في منطقة بعيدة عن مواقع العمل.

ولم تكن الشركة، يومذاك، توفر وسائط نقل للعمال من وإلى عملهم، بل كانوا يذهبون إلى العمل، ويعودون منه راجلين، يقاسون حرارة الصيف اللاهب وبرد الشتاء القارس. كما أن قسمًا كبيرًا من هؤلاء العمال ظلوا لفترة يسكنون خيامًا أقامتها لهم الشركة؛ لأنها لم تكن قادرة على توفير الغرف لكل العمال إبّان مدة عملية التوظيف والتوسع في الإنشاءات لدى أرامكو، وعلى العموم كانت أوضاع هذه الفئة من العمال، يومذاك، سيئة جدًا.  
-        السيد علي السيد باقر العوامي، الحركة الوطنية السعودية.