الجمعة، 27 أغسطس 2021

حكايات اسمي أو التشبّث بأخطائي.



تُظهر توصيات الأمان في نافذة تعبئة كلمات السر التلقائيّة في هاتفي أن واحدة من ثلاث كلمات سر ثابتة أستخدمها لحساباتي قد ظهرت في تسريب بيانات حديث، مما يعرّض حساباتي لخطر الاختراق. لدي ثلاث كلمات، واحدة طبعًا للحسابات البنكيّة وحسابات المواقع الحكومية، ثانية لأي مواقع يلزمني فيها التسجيل، وثالثة لحسابات مواقع التواصل الاجتماعي. تختلف كل واحدة عن الأخريات جذريًا، الثانية منهن هي التي ظهرت في التسريب الذي يتحدّث عنه هاتفي، وهي أقدمهنّ.


كنت أكتب اسمي بالإنجليزيّة منذ المرحلة الابتدائية بهذه التهجئة: «Reeuf»، هكذا علّمتني أختي الكبرى التي أدين لها بالكثير. واصلت كتابته هكذا حتى صادفت معلّمة في المرحلة المتوسّطة قالت أنني أكتبه بشكلٍ خاطئ وعليّ أن أصححه، وأعطتني تهجئة بها ستّة أحرف فاعتمدتها -وهذه من المرات القليلة التي أسلّم فيها بما يقال لي دون تأكد من صحّته- حتى بداية دراستي الجامعيّة في قسم اللغة الإنجليزيّة. بعد اختبار الشهر الأول، فيما يعرض أحد الأساتذة الأفاضل كراريس الإجابة على الشاشة ويعلّق إما على الخطوط أو الأجوبة، وضع كرّاسي وقال أنني لو اجتهدت قليلًا لما تركت حرفًا صائتًا يعتب عليّ، بالكاد أفلتت بعض الحروف الأخرى منّي أيضًا كي لا أضمها لتهجئة اسمي، وربما لو بذلت جهدًا لوجدت مكانًا للصائتين المتبقيين «a,i». كتبه على الشاشة كما يظهر على كرّاسي «Reyuof»، ثم شطب منه «y,o» وقال هكذا يكون اسمكِ صحيحًا. ربّما لو لم يعقّب بثناء على تنظيم كرّاسي وترتيب خطّي وبراعة أجوبتي -رغم أنني لم أحصل على الدرجة الكاملة- لما استطعت أن أذكر هذه الحادثة كلما واتت الفرصة وأنا أضحك. فصارت تهجئة اسمي «Reuf» وهي مطابقة للتهجئة الفرنسية لمفردة شقيق بلهجة «Verlan» التي تُقلب فيها مقاطع المفردة وتجرى عليها التعديلات اللازمة «/فغِغ/ reuf : frère /غِف/». اللهجة التي تعود بداياتها إلى القرن التاسع عشر، بدأت بمثابة لغة مشفّرة بين المجرمين، وساهم المهاجرون في شيوعها خلال العقود الأخيرة بعد الحرب العالميّة الثانية. 


Amit Das.
 وبالطبع إذ كنت قبل هذا أظن التهجئة السداسيّة صحيحة، استخدمتها في كلمات السر بجانب رقم تاريخ يعنيني لكنني صرت أكتبه بخطأ طباعي. في أول مرة أردت فيها أن أكتبه ضمن كلمة سرّ قبل سنوات من تصحيح التهجئة وردّها إلى تهجئة مماثلة لتهجئة أختي بفارق حرف، زلّ إصبعي عند الرقم الثاني لرقم بجانب الذي نويته، وإذ انتبهت للخطأ قبل أن أعتمدها فقد قررت أن أبقيه كما هو وليكن ذلك الخطأ هو القسم الثابت في كلمات السر. وهكذا صارت كلمة السر بخطئين، في الرقم والتهجئة، ورغم تعمّدي لأحدهما لم يخطر لي حينها أنني أتشبّث بتذكّر أخطائي، فلم يكن لديّ حينها أخطاء تستحق أن ألقي لها بالًا.



بعد أن راكمتُ أخطاءً تشغل حيّزًا من ذاكرتي ألفيت نفسي أسحبها إلى الهيمنة على ذهني من وقت لآخر. ثم أردت مرآة صغيرة في أحد الأيام، ذات أرجل، لها إطار خشبي منحوت بتفاصيل جميلة. وإذ لم أعثر على بغيتي، أخذت أقرب مرآة مشابهة، لم تكن مقنعة، لكن خلت أنني سأكتفي بها وسأكف عن التفكير بمرآة أحلامي. لم تعجبني، وحين غادرت مسكني المؤقت الذي ابتعتها وأنا فيه لم أتركها مع الأثاث الذي تركته رغم سهولة هذا القرار، بل حزمتها في حقيبتي لأحملها معي مثل أخطائي. دسستها وسط الملابس كي لا يسهل كسرها رغم أنني أرجو أن يقذف مسؤول الأمتعة في المطار بها فتتكسّر، ولا بأس حينها لو مزّقت شظاياها ملابسي، إذ كنت أكره تلك الملابس على كل حال. وهكذا لم يحدث شيء واحد ممّا أردته، بدءًا من العثور على المرآة التي أريد مرورًا بتحطّم هذه الأخرى في الحقيبة وانتهاءً باعجاب أختي الصغرى بها علّها تأخذها عنّي لحجرتها، فظلت معي. سمحت لصغار العائلة أن يستعملوها سبورة، علّهم يتلفونها على نحو لم يخطر ببالي، ثم تركتها مهملة لفترة في المستودع، ربما تتهشم تحت شيء ثقيل يسقط صدفة عليها، لكنها عادت ماثلةً أمامي، أطالعها من فوق شاشة الحاسوب على الخزانة المقابلة، أو تتعثّر يدي بها بحثًا عن شيء في تلك الخزانة. تذكّرني يوميًا بما كان عليّ تجنّبه: شراءها من الأساس -أتؤنبني على عدم ردّها فورًا إلى المحل؟-، ثم جرّها معي حيث لا ينبغي أن تحضر: تمامًا مثل أخطائي التي لا أغفرها، ولا يهم ما حدث بعد ذلك.


اسمي رِيُوف، وأحبّ أن أنادى باسمي الثنائي: ريوف خالد. تخبرني أمي أنها كتبته داخل دولابٍ عندها حين خطر لها في أشهر حملها الأولى كي لا يغيب عنها بعد ذلك. ريوف بكسر الراء، ولا يعني بأي شكلٍ كان جمع «ريف» لأن جمعها «رُيوف» بضمّ الراء، ولا يعجبني شيوع هذه المعلومة الخاطئة عن معنى اسم ريوف. جذور اسمي بدويّة، فهو صيغة مبالغة على وزن «فعول» من الفعل «راف: مخفّفة عن رأف»، فيقال رافت وارتافت وترتاف وتروف فلانة؛ وراف وارتاف ويرتاف ويروف فلان، والصفة منها «ريّفة، تجمع على ريّْفَات» للمؤنث و«ريّف» للمذكر، وصيغة المبالغة للمؤنث والمذكر: رِيُوف. أحب في اسمي جذره ومعناه، أليست الرأفة أشد من الرحمة، بل هي أرقّ منها؟ فكيف يحملون اسمي على مفردٍ لم يكن جمعه ومعنى ليس بمعناه؟


حمدًا لله أن اسمي لم يكتب خطأ عند الأحوال المدنيّة، فلم يكن «إريوف أو أريوف» مثلًا رغم أنني لا أمانعهما سمعًا. لكن حين صدرت هويّتي وعلى ظهرها البيانات باللغة الإنجليزيّة، لم يعجبني كيف ظهر اسمي، لكنني تجاهلته لفترة حتى صرت مضطرة لرؤيته في أماكن عديدة فاتصلت ذات يوم بالأحوال المدنيّة لأنني لم أجد ضمن خدمات المواعيد تصحيح الاسم باللغة الإنجليزيّة -قبل أن تتاح الخدمة من «أبشر»، وتتطلّب جواز سفر-، فقيل لي أن أحجز موعد تجديد بطاقة، وحين أحضر للموعد أطلب التغيير، وهكذا فعلت. حين حضرت موعدي وقلت للموظّفة أنني أريد تصحيح اسمي، قالت فورًا: «تغيّرين اسمك؟ اسمك عادي، ما فيه شيء. اتركيه.» فصحّحت لها أنني أريد تصحيح اسمي باللغة الإنجليزيّة، فقالت أنها لا تدري إن كان هذا ممكنًا، لم تتولى خدمة مشابهة من قبل، أكّدت لها تواصلي مع خدمة العملاء وما جرى في المحادثة، وأنهم قالوا بوسعي طلب تصحيحه دون أي وثيقة. لكن الموظفة أصرّت أنني لا أستطيع، فما يدريها لو أنني سأكتب اسمًا خاطئًا، وكيف لي أن أحكم على خطأ «Rayuf»، فقلت أن تخصّصي لغة إنجليزيّة لعل قولي هذا يقنعها لكنه لم يفعل، فتذكرت أن وثيقة البكالوريوس تحمل اسمي كما أريد أن يكون وأخبرتها! طلبت مني أن احضرها لتعتمد عليها، وكنت أنا من أمليت تهجئة اسمي على الوثيقة في موقع الجامعة. أحضرتها وأكملت الطلب، وعدت لاستلامها بعد أسبوعين. طيلة الإجراءات سمعت «الاسم اللاتيني» أكثر من مرة، لا أذكر إن كانت المستندات التي عبأتها أيضًا تذكر هذا أم أنها تنص على «الاسم بالأحرف اللاتينيّة»، والفرق بينهما شاسع. كلما قيل لي: تغيّرين الاسم اللاتيني؟ قلت نعم الاسم بالإنجليزي، لم أرغب في جدال فرعي عن ما يعنيه الاسم اللاتيني والاسم بالأحرف اللاتينيّة أو بالإنجليزيّة، لكنني في الوقت نفسه لم أستطع أن أصل في المجاراة إلى قول: تعديل اسمي اللاتيني، فطيلة الوقت يبزغ في رأسي: سيكون اسمكِ اللاتيني ريوفا «Reufa» جريًا على نظام التّسمية في اللاتينيّة بإضافة اللاحقة «a» إلى آخر الاسم المؤنث -وَاللاحقة «us» لأسماء الذكور-، ولو أنكِ على التهجئة القديمة لصار فيه أربعًا من الصوائت الخمس «Reyuofa»!


لم يجد أطفال العائلة مشكلةً مع اسمي، فهو «أوف» فـ «أيّوف»، ثم ما إن ينطقوا الراء حتى يجري كاملًا على ألسنتهم، كما لم يرغبوا في مشاكستي به باستثناء ابن أخي الصغير «اللكيع». نسيه مرة فقال: هنوف الصغيرونة، وهنوف أختي التي تكبرني، وإذ رأى أن نسيانه ونعتي بالصغيرة قد أزعجني واصل، فصرت الصغيرونة وحسب. ثم الصغيرونة التي ترتدي الأخضر، والصغيرونة «اللي غرفتها هناك.»، والصغيرونة «اللي عندها فيل.»، ثم بعد أن ابتعت حاسوبًا جديدًا وأخرجته من صندوقه بحضوره صرت «اللي كمبيوترها جديد.» وتنحّت الصغيرونة عن أسمائي الوصفيّة التالية، كل هذا دون أن يذكر اسمي مرةً واحدة، ثم انتهى أخيرًا إلى «اللي تقول دوّر الريموت.» وكأن تأليفه لكل هذه الجمل أسهل عليه من حفظ اسمي. حدّثت والدته مرة عن الأمر فقالت أنه يعرف اسمي ويقوله صحيحًا حين يعود إليها ليخبرها ماذا فعل في يومه، وأن كل هذا للمشاكسة وحسب. في المرة التالية سأل عنّي: «وين اللي تقول دوّر الريموت؟» فقال له أخي، عمّه: «صدق ما تعرف اسمها؟» -لدى هذا الولد مشكلة مع الاتهمام بقلّة المعرفة- فانبرى قائلًا: «إلا أعرف. اسمها ريوف.» وهكذا كفّ عن توليفات الأسماء التي راقت لي. 


غيّرت كلمة السرّ الثانية إلى كلمة مكوّنة من تاريخ صحيح، واسم مستعار لطالما أحببت استعارته وأحببت الشخصيّة التي كنتها يوم استعرته، ربّما تذكارًا لبنتٍ حوى ذهنها ذات مرة «أفكارًا بيضاء» و«ذكريات خضراء».