بيتر بان - رسم: فلورا وايت 1914م. .Flora White |
"لم تمت ولست أكثر حكمة.
لم تُعرِّض عينيك للسعةِ الشمس."
- جورج بيريك، النائم.
مؤخرًا،
غرّدت صديقتي تينا (التي تُعرف بِ @SwissMiss) بما يلي:"لم أشعر قط أنني أكثر نضجًا منّي الآن في 2015م.
هل بلغت الذروة؟ ما هي أنضج تجربة قد يمر بها الإنسان؟" التغريدة التي قادتني
إلى التفكير في أي الصفات تحديدًا التي نُصنّف على إثرها بأننا ناضجون؟ وهل هذه
الصفات إيجابيّة بالضرورة؟ استغرقت
ما يقارب الأسبوع حتى وصلت إلى نتيجة، وقد خلصت إلى أن مفهوم الالتزام هو ما
يُميّز، في النهاية، بين الناضجين والأطفال.
أعطتني فقرة في كتاب شيلا هيتي "كيف يجدر بالمرء أن
يكون" الإجابة، لقد عدت إلى هذه "الخرافة" عدة مرات منذ أن قرأته
قبل سنوات. الشخصيّة الرئيسيّة في القصة، من يصادف أن يكون اسمها شيلا، تريد
التخلي عن مشروع إبداعي تعاني منه. في هلع، أجرت
اتصالًا طارئًا مع محلّلتها النفسيّة، التي بيّنت أن هاجس شيلا باختيار المشروع
المثالي لتنجزه –المشروع الذي يضمن لها نجاحًا باهرًا- لم يدعها تختار شيئًا.
أساسًا، لا تستطيع أن تلتزم.
هكذا
وصفت محلّلتها متلازمة بيتر بان لديها:
"أتذكرين
بيتر بان، الطفل الأبدي-puer aeternus/ الطفلة الأبدية: puella aeterna- الصبي الذي لا يكبر ولا يصبح رجلًا أبدًا؟ أو ما ورد في
"الأمير الصغير" عندما طلب الأمير من الراوي أن يرسم له خروفًا. حاول
الراوي أن يرسم مرةً بعد مرة، لكنه فشل كل مرة في رسم الخروف كما يريد. يعتقد أنه
رسام عظيم ولا يفهم لماذا لا ينجح في رسم الخروف. في نوبة إحباط، رسم صندوقًا
بدلًا من الخروف، الشيء الذي يُمكنه رسمه جيّدًا. عندما سأله الأمير كيف تكون هذه الصورة
لخروف، أجابه الراوي بأنها صورة خروف داخل الصندوق. يفخر الراوي متغطرسًا بحلّه وهو
راضٍ عن جهوده. هذه هي الاستجابة النموذجية لكل الأبيقوريين[1].
دائمًا عندما تصعب الأمور، يقول مثل هؤلاء الأشخاص، فجأةً، بأن لديهم خطة أخرى،
لكن تحوّلهم الدائم هو الخطير لا ما يختارونه.
...
لأن
الأشخاص الذين يعيشون حياتهم بهذا الأسلوب لا يرون أمامهم سوى وجهة واحدة،
يتشاركون هذا مع أشخاص من نوعهم، بالرغم من أن مثل هؤلاء يعتقدون أنهم لا يمثلون
نوعًا، بل يشعرون بأنهم يتميّزون عن غالبية البشر ممّن يرون أن مراسي العالم
التافهة تحتجزهم. يبني
الآخرون حياةً في الواقع، حيث تكتسب الأشياء معنى ومغزى، بينما لا يحدث هذا مع
الأبيقوري. حتمًا سينظر هذا الشخص، إلى الخلف، عندما توشك حياته على النهاية، مع
شعور بالخواء والحزن واعيًا بأنه لم يبن شيئًا. ما أنجزوه خلال سعيهم وراء حياةٍ
خالية من الفشل والمعاناة والشك؛ حياة خالية من كل تلك الأشياء التي تمنح معنىً
لحياة الإنسان. وحتى اللحظة، لا يكفّون
عن إيمانهم بأنهم مميّزون جدًا بالنسبة لهذا العالم.
لكن
–وهذا هو الأمل- هنالك حل لهؤلاء الناس، ربّما ليس حلًا يُمكن توقّعه؛ أن يكملوا
ما بدأوه، وألّا يتخلّوا عن خططهم حالما تصعب الأمور. عليهم العمل دون الهرب إلى خيالات
كونهم أشخاص قد عملوا، ولا أعني العمل من أجل العمل، إنما العمل الذي يبدأ وينتهي
بالشغف، المسألة التي تنهش أحشاءهم، التي لا يُمكنهم تجنبها، إنما التي يجب عليهم استيعابها
ومعايشتها أثناء الجهد الشاق الذي يصاحب حتمًا هذه العملية.
...
يجب عليهم أن يعزّزوا ويكملوا ما هو موجود في حياتهم
بالفعل بدلًا من البدء دائمًا من جديد، آملين العثور على وضع دون خطورة. لا يحتاج الأبيقوريّون
إلى عرض أنفسهم على التحليل النفسي. لو يتذكرون فقط أن تحوّلهم
الدائم هو الخطير لا ما يختارون، ربما حسبوا أنهم آمنون هكذا. المشكلة أن الأبيقوريّين
يتوقعون الخسارة، خيبة الأمل، والألم، التي يرونها في نهاية كل تجربة، لهذا ينسحبون
من البداية، يتراجعون دفعةً واحدة لحماية أنفسهم، لهذا لا يمنحون أنفسهم للحياة،
إنما يعيشون في فزع دائم من النهاية. المنطق، في حالتهم، قد أخذ الكثير من حياتهم.
عليهم
منح أنفسهم، بكليّتها، للتّجربة! يتساءل المرء أحيانُا كم سيكون مثل هؤلاء أكثر
حياةً إذا ما عانوا، إذا لم يستطيعوا أن يكونوا سعداء، فليكونوا على الأقل تعساء،
تعساء حقًا لمرة واحدة، وبعدها ربما أصبحوا بشرًا حقًا."
عندما
يضطرب سير مشروع تجاري أو إبداعي، فإن الاصرار الصرف، الالتزام بقدراتنا ومسيرنا،
الالتزام بإنهاء العمل حتى في مواجهة نكسات حتميّة، هو ما نحتاجه، لا المنطق ولا
العقلانيّة. هذا ما يفصل بين الأطفال والناضجين، بين البيتربانيّين والمجربين.
إذا
كان النضج يعني الارتباط بعمل أو مشروع أو شخص، إذًا من المستحيل الوصول إلى ذورة
له، وبقدر عمق الارتباط يكون عمق المعنى الذي قد ينبثق منه.
[1] "الأبيقوري: شخصية بيتر بان، الـ Puer aeternus – الطفل الأبدي. الأبيقوريون
لديهم مشاكل مع الالتزامات، فهم يريدون إبقاء الخيارات مفتوحة أمامهم." –
نبيل سلامة، في مقالة تعرض كتاب "التاسوعيّة" الذي يتناول أنماط البشر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق