الاثنين، 13 أبريل 2020

هيئة محلفين من نظيراتها - سوزان غلاسبيل.

«في عام ١٩٠٠ حين كانت صحافيّة في «Des Moines» غطّت سوزان گلاسپل قضية قتل حسّاسة، حين اتّهمت مزارعة بقتل زوجها. أُخذت سوزان گلاسپل بالحادثة والمحاكمة حدّ أنها حوّلتها إلى مسرحية ذات فصل واحد «توافه» في عام ١٩١٦م. ثم إلى قصّة قصيرة «هيئة محلّفين من نظيراتها» في عام ١٩١٧م. في كلتي النسختين، دعيت السيّدة هيل والسيّدة پيترز تاركات مهّامهن المنزليّة لمرافقة أزواجهن والشريف والمفوَّض إلى بيت السيّدة المتهمة. منذ إعادة اكتشاف القصّة وطباعتها في سبعينيّات القرن العشرين، نوقشت «هيئة محلّفين من نظيراتها» في صفوف القانون والمقالات القانونيّة وندوات أصول المرافعات الحقوقيّة والقانون الجنائي. يناقش مصطلح «نظير» في العنوان، إذ آنذاك لم تكن النساء نظائر الرجال. وقد طالبت الناشطة النسوية من قبلها، لوسي ستون بـ «هيئة محلّفين من نظيراتها» في قضيّة اتهام ليزي بوردن المتهمة بقتل والدها وزوجته في عام ١٨٩٣م.»
  • هذه النبذة بتصرّف من «A Jury Of Her Peers: American Women Writers from Anne Bradstreet to Annie Proulx» لمؤلفته الناقدة النسويّة الأميركيّة إلين شولتر - Elaine Showalter


عن القاصّة: سوزان گلاسپل (١٨٧٦ - ١٩٤٨م.) صحفيّة وروائيّة وقاصّة، ممثّلة ومنتجة ومخرجة وكاتبة مسرحيّة أميركيّة. نشرت أكثر من خمسين قصّة قصيرة، وتسع روايات، وأربع عشرة مسرحيّة وسيرة ذاتيّة واحدة. عملت في الصحافة لسنتين بعد تخرّجها من الجامعة، ثم تركت الصحافة في عام ١٩٠١م. وعزمت على كسب عيشها من التفرغ للكتابة القصصيّة. أسست بعد ذلك مع زوجها شركة "بروفينستاون بليرز" المسرحية، وبدأت تكتب وتخرج المسرحيات وتمثّل فيها أحيانًا. وهي من أدّت دور المرأة القادمة من آيداهو في مسرحيّة "النّاس" -وقد نشرت ترجمة المسرحيّة هنا-. كتبت من ١٩١٦ حتى ١٩٢٢ تسع مسرحيات، من بينها مسرحية "توافه - Trifles" وقصة"هيئة محلفين من نظيراتها - A jury of Her Peers" التي باتت أشهر أعمالها اليوم إثر دراستها ضمن الدراسات النسويّة. حصلت على جائزة البوليتزر عام ١٩٣٠م. من أجل مسرحيّتها "حجرة أليسون - Alison’s Room"، المسرحية المبنية على حياة  الشاعرة الأميركيّة إيميلي ديكنسن - Emily Dickinson، وقد كانت آخر مسرحيّاتها. تعد كاتبة نسويّة رائدة، وأول كاتبة مسرحيّة أميركيّة حديثة مهمة حظيت باهتمام النقاد. كما يعزى إليها الفضل في اكتشاف موهبة المسرحي يوجين أونيل - Eugene O’Neill الذي حصل على عدّة جوائز من بينها جائزة نوبل في الأدب عام ١٩٣٦م. رفعت قصّة «هيئة محلّفين من نظيراتها» هنا في ملف «pdf» تسهيلًا للقراءة -كما أن الحواشي السفليّة لا تظهر في التدوينة-. 


هيئة محلفين من نظيراتها. (١٩١٧م.)
سوزان گلاسپيل، ترجمة: ريوف خالد.


حالما فتحت مارثا هيل الباب الرّافد نفحتها ريح الشمال، فطفقت مسرعة إلى وشاحها الصوفي الكبير. مشّطت مطبخها بعينيها في مسحة مروَّعة أثناء لفّها الوشاح حول رأسها عجلى. لم يكن ما استدعى خروجها أمرًا عاديًا بل على النقيض هو أبعد ما يكون عن العادية من أي شيء آخر قد وقع في «مقاطعة ديكسن» من قبل. أما ما تبيّنته بعينيها فكون مطبخها غير مهيأ بعد لمغادرتها: إذ خبزها جاهز للخلط، بطحين نصفه منخول ونصفه لم يُنخل.

كانت تكره رؤية الأشياء نصف ناجزة؛ لكن هذه هي المرحلة التي وصلتها من العمل حين توقف الفريق القادم من البلدة ليصطحب السيّد هيل، ثم جاء الشريف مسرعًا يقول أن زوجته تأمل من السيّدة هيل أن ترافقها أيضًا - مضيفًا، وهو يبتسم، أنها لربما تشعر بالهلع لذا تريد صحبة امرأة أخرى. وهكذا تركت كل شيء حيث كان. «مارثا!» جاء صوت زوجها نافد الصبر: «لا تمكّثي الناس في البرد.» عاودتْ فتح الباب الرّافد لتنضمّ إلى الرجال الثلاثة والمرأة التي تنتظرها في عربة بصفّين من المقاعد. بعد أن أضفت عليها لحاف الحِجر، ألقت نظرة ثانية على المرأة الجالسة بجوارها في المقعد الخلفي. لقد التقتْ السيّدة پيترز قبل عام في سوق المقاطعة، أمّا ما علق في ذاكرتها من ذلك اللقاء؛ فأنها لا تبدو زوجة شريف. إذ كانت ضاوية ولم يكن صوتها جهوريًّا. أما السيّدة گورمان، وهي زوجة الشريف قبل أن يغادر گورمان ويحلّ پيترز محلّه، فذات صوت يبدو داعمًا للقانون في كل كلمة يقولها. وإن كانت السيّدة پيترز لا تبدو زوجة شريف، إلا أن پيترز نفسه نجح في أن يبدو شريفًا. لقد كان بالضبط نموذج الرجل القادر على الفوز بالتصويت على منصب الشريف - فهو رجل بدين، وصوته أجشّ، لطيفٌ بنحو خاص مع الممتثلين للقانون، كمن يريد تبيان تمييزه المجرمين عن غيرهم. حينها استوعبت السيّدة هيل، مثل طعنة مفاجئة، أن هذا الرجل الطيب المرح معهم جميعًا سيذهب إلى منزل آل رايت الآن بصفته الشريف.

«طقس البلاد ليس بسار في هذا الوقت من السنة.» نطقت السيّدة پيترز أخيرًا، كأنّها شعرت بضرورة أن يتحدثن فيما بينهن مثلما يفعل الرجال. بالكاد أتّمت السيّدة هيل ردها، إذ صعدوا  الرابية فبات منزل آل رايت في مرآهم الآن، ومرآه أفقدها الرغبة في الحديث. لقد بدا لها موحِشًا في صباح آذار البارد هذا، وقد طالما بدا مكانًا موحشًا لها. يقع المنزل في غوْر، وأشجار الحور المحيطة به تشي بوحشته. كان الرّجال يحدقون المنزل ويتحدثون عمّا حدث. ظل مفوّض المقاطعة مائلًا من جانب العربة، ينظر مليًا إلى وجهتهم فيما يقتربون منها.
«سررت بمجيئكِ معي،» قالت السيّدة پيترز بتوتّر، فيما يوشكن على عبور باب المطبخ يتبعن الرجال. حتى بعد أن وضعت قدمها على العتبة، ويدها على عروة الباب، شعرت مارثا هيل لومضة بأنها لا تستطيع عبور الأُسكُفّة، السبب ببساطة لأنها لم تعبرها من قبل. لطالما خطر لها، مرة تلو مرة، وحدّثت نفسها قائلة: «لا بد أن أذهب لأزور ميني فوستر» - ما تزال تعتبرها ميني فوستر، بالرغم من أنها قد صارت السيّدة رايت منذ عشرين سنة- لكن ثمة شيء دائمًا يلزمها فعله، ثم تغيب ميني فوستر عن ذهنها. لكنها استطاعت الآن المجيئ. توجّه الرجال إلى الموقد فيما وقفت المرأتان متلاصقتان عند الباب. استدار مفوّض المقاطعة، الشاب هاندرسن، وقال، «اقتربن من النار يا سيّدات.» خطت السيّدة پيترز خطوة إلى الأمام، ثم توقفت. «لكنني لست - بردانة،» قالت، وهكذا ظلت المرأتان بالباب، ولم يكنّ حتى ذاك قد نظرن إلى المطبخ من حولهن.

تحدّث الرجال لبعض الوقت عن التصرف الموفّق للشريف إذ أرسل نائبه ليوقد النار هذا الصباح من أجلهم، ثم ابتعد الشريف عن الموقد، حلّ أزرار معطفه العلوي واتكأ بكفّيه على طاولة المطبخ على نحو موحٍ ببدء عمل رسمي. «الآن، سيّد هيل،» قال بنبرة شبه رسميّة، «قبل أن نشرع في تحريك الأشياء، اخبر السيّد هاندرسن بما رأيت حين جئت هنا صباح أمس.». تلفّت مفوّض المقاطعة في المطبخ. «بالمناسبة،» قال، «هل حُرِّك شيء؟» والتفت موجهًا حديثه إلى الشريف. «هل كل الأشياء كما تركتها يوم أمس؟» نظر پيترز من الخزانة وحتى المغسلة؛ ومن هذا إلى كرسي رجّاح بالٍ قريب قليلًا من إحدى أطراف طاولة المطبخ. «كما كان.» قال الشريف. «فاتكم أن تتركوا أحدًا هنا يوم أمس،» قال مفوّض المقاطعة. «آه، أمس،» قال الشريف، بإيماءة تكاد تقول أن التفكير في يوم أمس فوق ما يطيق. «حين اضطررت أن أرسل فرانك إلى «مركز موريس» من أجل ذاك الرجل الذي جنّ - دعني أخبرك. لقد كانت يداي ممتلئتان يوم أمس بالأعمال. كنت أعلم أنك ستعود من «أوماها» اليوم، جورج، وبما أنني اهتممت بكل شيء هنا بنفسي -»

«حسنًا، سيّد هيل،» قال مفوّض المقاطعة، بطريقة يتغاضى فيها عمّا فات، «أخبرني بما حدث بالضبط حين جئت إلى هنا صباح أمس». ما تزال السيّدة هيل مستندة على الباب، وقد اجتاحها توتّر الأم التي يوشك طفلها على أن يدلي بدلوه. عادة ما ينجرف لويس في الحديث ويلخبط الأشياء في القصّة. أملت أن يقول ما لديه بمباشرة ووضوح، دون قول أشياء فائضة عن الحاجة تزيد من سوء وضع ميني فوستر. لم يشرع في الحديث فورًا، وقد لاحظت أنه يبدو متوعّكًا -كأن وقوفه في هذا المطبخ واضطراره للشهادة بما رأى صباح يوم أمس أمرضه تقريبًا. «إيه، سيّد هيل؟» ذكّره مفوّض المقاطعة. «جهّزت أنا وهاري حمولة بطاطس للبلدة،» قال زوج السيّدة هيل. هاري هو أكبر أبناء السيّدة هيل، ولم يكن معهم حينها، لسبب بسيط ومقنع، فحمولة البطاطس تلك لم تذهب يوم أمس إلى البلدة وقد ترتّب على هذا أن ينقلها هو اليوم، هذا سبب غيابه عن المنزل حين توقف الشريف طالبًا حضور السيّد هيل لمنزل آل رايت، كي يخبر مفوّض المقاطعة بما حدث هناك، حيث يتاح له أن يشير إلى كل شيء. انضم شعور آخر إلى بقية مشاعر السيّدة هيل؛ وهو الخوف من أن هاري ليس متدثرًا بما يقيه من البرد - إذ لم يدرك أحدهم يومها بأي قدر ستعضّ ريح الشمال.

«سلكنا هذا الطريق،» واصل هيل. مشيرًا بحركة من يده إلى الطريق الذي جاؤوا منه لتوّهم، «وحين تراءى لنا المنزل قلت لهاري، «سأجرّب لربّما أستطيع أن أقنع جون رايت بتركيب هاتف.» كما تعلم، راح يشرح لهاندرسن، ما لم أستطع أن أجلب أحدًا معي يرغب في هاتف فلن يشملوا هذا الطريق الفرعي بإمدادات الهاتف إلا بسعر لا أقدر عليه. لقد تحدثت مع رايت بشأنه مرة، لكنه أسكتني، قائلًا أن الناس تتحدث كثيرًا هذا مع عدم توفّره فكيف به، وكل ما يبتغيه السّلام والهدوء - أظنك تعلم قدر ثرثرته هو نفسه على أيّة حال. إنما ظننت أنني بالدخول إلى منزله والحديث عن أمر الهاتف أمام زوجته، أي بقول أن كافة النساء أعجبن بالهواتف، وإنه في امتداد الطريق الوحيد هذا سيكون وجود الهاتف أمرًا جيدًا -حسنًا، قلت لهاري أن هذا ما سأقوله- رغم قولي في الوقت نفسه أنني لا أدري إن كان ما تريده زوجته قد يمثل فارقًا بالنسبة لجون -» ها هو ذا! -يقول أشياءً ليس ثمة داعٍ لقولها. حاولت السيّدة هيل أن تقنص نظرات زوجها، لكن لحسن الحظ قاطعه المفوّض بقوله: «لنؤجل الحديث عن هذا الأمر إلى وقت لاحق. سيّد هيل. أود الحديث عنه بالطبع لكن، أنا توّاق لمعرفة ما حدث حين دخلت المنزل.» عندما بدأ الحديث هذه المرة، كان متنبّهًا وحذرًا: «لم أر أو أسمع أي شيء. طرقت الباب، وما يزال الداخل هادئًا تمامًا. كنت أعلم أنهم لا بد في الداخل - لقد تجاوز الوقت الثامنة تمامًا. لذا طرقت الباب ثانية، طرقًا أصخب من سابقه هذه المرة، خيّل لي أنني سمعت شخصًا في الداخل يقول «تفضّل.» لست متأكدًا بعد. لكنني فتحت الباب - أي هذا الباب،» هازًا يده باتّجاه الباب الذي تقف به المرأتان. «وهنا، على هذا الكرسي الرجّاح -أشار إليه- كانت تجلس السيّدة رايت.» ألتفت كل من في الحجرة إلى الكرسي الرجّاح. خطر لذهن السيّدة هيل أن هذا الكرسي لا يشبه وإن قليلًا لميني فوستر - لميني فوستر قبل عشرين عامًا. لونه أحمر متسخ، بروافد خشبيّة أفقيّة على مد الظهر، أما الرافدة الوسطى فمفقودة، وبه هبوط في أحد جانبيه. «هي - كيف بدت؟» استفهم مفوّض المقاطعة. «حسنًا،» قال هيل، «بدت غريبة.»، «ماذا تعني بغريبة؟» فيما سأل هذا السؤال، استل دفترًا وقلم رصاص. لم يعجب قلم الرصاص هذا السيّدة هيل. ظل بصرها معلقًا بزوجها طيلة الوقت، كأنها تريد ردعه عن قول أمر غير ضروري يدخل في هذا الدفتر ويسبب المتاعب. تحدّث هيل تدريجيًا، كأن قلم الرصاص أثر عليه بدوره. «بدت لا تدري ما التالي، وكأنها منهكة»، «ماذا عن شعورها حيال قدومك؟»، «أوه، لا أظنّها عبأت بي - على كل حال. لم تعرني ذاك الانتباه. قلت كيف حال السيّدة رايت؟ الطقس بارد، أليس كذلك؟ فقالت أهو كذلك؟ وواصلت تغضين مريلتها.

«حسنًا، تفاجأت حين لم تدعوني إلى الموقد، أو إلى الجلوس. فهي جامدة وحسب، دون حتى أن تنظر إلي. حينها قلت «جئت لألتقي بجون.»، «ثم - ضحكت. أظن أن بمقدوري تسميتها ضحكة.» فكّرت في هاري والخيل في الخارج، لذا قلت، بحدّة قليلة، «هل بمقدوري أن ألتقي جون؟»، «لا،» أجابت - بشيء من البلادة. «أليس في البيت؟» سألت، حينها نظرت إليّ، «بلى،» قالت، «هو في البيت.»، «إذًا لم لا أستطيع لقائه؟» سألتها، وقد استهلكت صبري آنذاك. «لأنه ميّت» قالت، بكل بلادة وهدوء -ثم واصلت تغضين مريلتها. «ميت؟» قلت، مثلما يفعل المرء حين لا يستوعب ما سمعه. «هزّت رأسها أي نعم وحسب، دون أدنى تأثر، تتردّد متأرجحة على كرسيها بين الأمام والخلف. «ربّاه - أين هو؟» قلت، دون أن أدري ما أقول. «أشارت إلى الأعلى، كذا» وأشار إلى الغرفة فوقهم بدوره. مضيت، وقد سيطرت علي فكرة الصعود بمفردي حينها - لم أكن أدرك ما علي فعله. مشيت من هنا إلى هنا؛ ثم قلت: «ربّاه، ممّ مات؟، «مات من حبلٍ التفّ حول عنقه،» قالت؛ وواصلت تغضين مريلتها.» كف هيل عن الكلام، وظل يحدّق في الكرسي الرجّاح، كأنه ما يزال يرى المرأة التي جلست هنا صباح أمس. «حينها ماذا فعلت؟» أخيرًا بدّد مفوّض المقاطعة الصمت. «خرجت وناديت هاري. قلت لربما أحتاج إلى مساعدة. أدخلت هاري معي، وصعدنا.» تبدّل صوته إلى وشوشة تقريبًا. «وإذ به هناك - ممدد في الأعلى.»، «أفضّل أن تصعد،» قاطعه مفوّض المقاطعة، «حيث يمكنك أن تفصّل في كل شيء. لكن واصل الآن بقية القصة.» واصل السيّدة هيل: «حسنًا أول خاطرة خطرت لي أن أفكّ عنه ذاك الحبل. لقد بدا-» توقّف، اختلج وجهه. «لكن هاري اعترض وقال: «لا، لقد مات بالفعل، من الأفضل ألّا نلمس شيئًا.» لذا نزلنا. كانت هي ما تزال في جلستها نفسها. «هل أبلغتِ أحدًا؟» سألتها، فأجابت بلا، لا مبالية. فسأل هاري «من فعل هذا سيّدة رايت؟» سألها بجديّة، توقفت عن تغضين المريلة، وأجابت: «لا أعلم.» سأل هاري «لا تعلمين؟ ألم تكوني نائمة في السرير بجانبه؟»
«بلى، لكنني كنت مستغرقة في نومي.» قالت. 
«أحدٌ ما عقد الحبل حول عنقه وشنقه، وأنتِ لم تستيقظي؟» قال هاري. «لم أستيقظ،» كررت بعده. «ربّما بدا علينا عدم التصديق، إذ قالت بعد دقيقة، «نومي عميق.» كان هاري سيسألها المزيد من الأسئلة، لكنني قلت قد لا يكون هذا من شأننا؛ ربما عليها أن تقول قصتها أولًا لمحقق الوفيّات أو الشريف. لذا هرع هاري بأقصى سرعته إلى الطريق الرئيسي، إلى بيت آل ريڤرز، حيث ثمة هاتف.»
«ماذا فعلت حين علمت أنكم ستستدعون محقّق الوفيّات؟» سأل مفوّض المقاطعة وقلمه الرّصاص في يده متأهبًا للتدوين.

«انتقلت من هذا الكرسي إلى الكرسي الكائن هناك» -أشار هيل إلى كرسي صغير في الركن- «ثم قعدت مطرقة عاقدةً كفيها. شعرتُ بضرورة الحديث، لذا قلت أنني جئت لأرى لربما أراد جون أن يركّب هاتفًا؛ حينها أطلقت ضحكتها، ثم صمتت ونظرت إلي، - كان الوضع مخيفًا.» علا صوت خط قلم الرصاص، رفع الرجل الذي يسرد القصة بصره. «لا أعلم، ربما ليس مخيفًا،»  واصل عجلًا: «لا أميل لقول هذا. عاد هاري فورًا، أتى بعده الطبيب لويد، وأنت يا سيّد پيترز، وهذا على ما أظن كل ما أعرفه ولا تعرفونه.» قال عبارته الأخيرة بارتياح، تزحزح قليلًا، كأنه يسترخي. تزحزح الجميع. سار مفوّض المقاطعة قاصدًا باب الدرج. «أظن أننا سنصعد إلى الأعلى أولًا - ثم سنخرج إلى الحظيرة وما حولها.» صمت وجال بنظره في المطبخ. «أنت مقتنع بأن لا شيء مهم هنا؟ لا شيء - يشير إلى أي دافع للجريمة؟» سأل الشّريف وجال بنظره أيضًا، كأنه يعيد اقناع نفسه. «ليس ثمة شيء هنا عدا لوازم المطبخ،» قال ورافق قوله ضحكة هازئة من تفاهة لوازم المطبخ.

نظر مفوّض المقاطعة إلى الخزانة - الغريبة، خرقاء التصميم. نصفها دولاب ونصفها خزانة، نصفها الأعلى مركّب على الجدار، ونصفها الأسفل عبارة عن خزائن المطبخ التقليديّة ذات الأرفف. كأن نشوزها اجتذبه، سحب كرسيًا وفتح أعلاها كي ينظر إليه. بعد لحظة سحب يده عنها وهي دبقة. «ثمة فوضى خلّاقة هنا،» قال ممتعضًا. اقتربت المرأتان، ثم تكلّمت زوجة الشريف. «أوه - فاكهتها،» قالت، محدّقة في السيّدة هيل تتسقّط تعاطفها. استدارت إلى مفوّض المقاطعة وبيّنت: «لقد أقلقها هذا عندما اشتد البرد ليلة البارحة. قالت أن النار ستخبو وقد تنفلق برطمانات مربّياتها.» قهقه زوج السيّدة پيترز. «حسنًا، أيمكن هزيمة النساء! تتهم واحدتهن بالقتل، ومع هذا تقلق على معلّباتها!» مط المفوّض الشاب شفتيه، «ربما سيصبح لديها ما هو أكثر جديّة من المربيات لتقلق بشأنه قبل أن ننتهي منها.» قال. «أوه، حسنًا،» قال زوج السيّدة هيل، بفوقيّة أصيلة وأكمل «اعتادت النساء على القلق حيال التوافه.»

تقاربت المرأتان قليلًا. لم تتحدّث أيًا منهن. بدا أن مفوّض المقاطعة قد تذكر اللباقة فجأة - وفكّر في مستقبله. «مع ذلك،» قال، بإقدام سياسي شاب. «بالرغم من كل قلقهن، ماذا يمكن أن نفعل دون السيّدات؟» لم يتحدّثن، لم يسترخين. اتجه للمغسلة يغسل كفّيه. استدار لينشّفها في المنشفة الدوّارة حول بكرة - أدارها بحثًا عن مكانٍ نظيف. «مناشف قذرة! ليست من شيم ربّة المنزل، ما قولكن يا سيّدات؟» قال وركل بعض الطناجر المتسخة تحت المغسلة. «ثمة الكثير من العمل تؤديه في المزرعة،» قالت السيّدة هيل بجفاء. «بالطبع، لكن حتى لو» -انحنى انحناءة بسيطة لها- «ثمة منازل مزارع أخرى أعرفها في مقاطعة ديكسن لا يوجد بها مثل هذه المناشف.» سحبها ليكشفها كاملة مجددًا. 
«تتسخ هذه المناشف بسرعة مريعة. فأيدي الرجال لا تكون عادة بالنظافة المتوقعة.»
«آها، أرى أنكِ مخلصة لجنسكِ،» قال ضاحكًا. توقف وقد نظر إليها بحدّة، «أنتِ والسيّدة رايت جارات. أظن أنكن صديقات أيضًا.» هزّت مارثا هيل رأسها نافيةً. «رأيت القليل منها في السنوات الأخيرة. لم أدخل هذا المنزل - منذ ما يفوق السنة.»
«ولِم هذا؟ ألم تحبيها؟»

«بلى أحببتها بدرجة معقولة،» قالت بحنان. «أيدي زوجات المزارعين ممتلئة، سيّد هاندرسن. كما أن -» تلفّتت حولها في المطبخ. «إيه؟» قال مستنطقًا. «منزلها لم يبدو لي قط مكانًا بهيجًا،» قالت، محدِّثة نفسها أكثر من كونها تحدّثه. «صحيح،» وافقها؛ «لا أظن أحدًا قد يعتبره مكانًا بهيجًا. كما أظن أنها تفتقر إلى غريزة التدبير المنزلي.»
«حسنًا، لا أدري لربّما رايت يفتقر إليها بدوره،» هتملت. «أتعنين أنهما لم يوفّقا» باغتها بالسؤال. «لا؛ لا أعني أي شيء،» أجابته، باقتضاب. أضافت فيما تبتعد عنه: «لا أظن المكان قد يكون أبهج بوجود جون رايت فيه.» «أود أن أتحدّث معكِ بهذا الخصوص لاحقًا، سيّدة هيل،» قال. «أنا متحمسٌ الآن لمشاهدة تفاصيل الطابق الأعلى.»

توجه لباب الدرج متبوعًا بالرجلين الآخرين. «أعتقد ألّا بأس فيما قد تفعله السيّدة پيترز؟» قال الشّريف مستفسرًا، «ستأخذ لها بعض الملابس، كما تعلم - وبعض الأشياء. لقد غادرنا أمس في عجلة.» نظر مفوّض المقاطعة إلى السيّدتين اللاتي يوشكون على تركهن وسط مستلزمات المطبخ. «نعم - السيّدة پيترز،» قال، فيما حط بصره على المرأة التي لم تكن السيّدة پيترز، على المرأة المزارعة الضخمة الواقفة خلف زوجة الشريف. «بالطبع فالسيّدة پيترز واحدة منّا،» أتم حديثه، بنبرة من يعهد إليها بمسؤوليّة. «ابقِ عينكِ متيقظة لأي شيء قد يكون مفيدًا سيّدة پيترز. لا ندري لربما أنتن النساء من تتوصّلن إلى دليل يكشف دافع الجريمة - وهو ما ينقصنا.» دعك السيّد هيل وجهه على طريقة الاستعراضي المتأهب للتودّد. «لكن هل ستعرف النساء الدليل إذا صادفنه؟» قال؛ وبعد أن قال قوله، تبع الآخرين عبر باب الدرج.

وقفت المرأتان بلا حراك أو صوت، يستمعن إلى وقع الخطى، على الدرج في البدء ثم في الغرفة فوقهن. آنذاك، وكأنها تحرر نفسها من أمرٍ غريب، طفقت السيّدة هيل ترتّب الطناجر القذرة التي بعثرتها ركلة قدم مفوّض المقاطعة المحتقِرَة تحت المغسلة. «سأكره أن يدخل الرجال إلى مطبخي، يتطفّلون وينتقدون.» قالت بحنق. «بالطبع فهذا السلوك لا يعدو كونه مهّمتهم،» قالت بموافقة خجولة.
«نعم مهمّتهم،» قالت السيّدة هيل بتلقائية؛ «لكن أظن أن مندوب الشريف الذي جاء ليشعل النار مسؤول عن بعض هذه الفوضى -سحبت المنشفة الدوّارة- ليتني فكرت بهذه الاحتماليّة في وقت أبكر! يبدو الحديث عن عدم تنظيمها للأشياء لئيمًا، في حين أنها اضطرت للخروج في عجلة.»

جالت ببصرها في المطبخ. بالطبع لم يكن «مرتبًا»، خطف جردل سكر على الرف الأسفل بصرها. لم يكن ثمة غطاء على الجردل الخشبي، وبجانبه كيس ورقي نصف ممتلئ. تقدّمت السيّدة هيل نحوه. «كانت ستفرّغ هذا هنا،» قالت لنفسها - ببطء. هجست في الطحين الذي تركته في مطبخ بيتها - بنصفٍ منخول ونصف لم ينخل. لقد قوطعتْ، وتركتْ الأعمال نصف ناجزة. ما الذي قاطع ميني فوستر؟ لم تُرِك هذا العمل في منتصفه؟ خطت خطوة لتنجزه، -إذ لطالما أزعجتها الأعمال غير الناجزة،- حينها ألقت نظرة حولها فإذ بالسيّدة پيترز تراقبها - ولم ترغب أن تخمّن السيّدة پيترز بأنها هي نفسها قد بدأت عملًا ثم -لسببٍ ما- لم تنجزه. «خسارة فاكهتها،» قالت، وتوجهت للخزانة التي فتحها مفوّض المقاطعة، صعدت على الكرسي، همهمت: «أتساءل إن خربت كلها.» لقد كانت الخزانة فوضويّة بما يكفي، لكن - «هنا واحدة جيّدة،» قالت أخيرًا. مدّتها للضوء. «وهو كرز، أيضًا.» نظرت ثانية. «في رأيي أنها الوحيدة المتبقية.»

نزلت عن الكرسي بتنهيدة، قصدت المغسلة، ثم غسلت الزّجاجة من الخارج. «ستشعر باستياءٍ شديد، أن يحدث هذا بعد عملها الشاق في الطقس الحار. أذكر الظّهيرة التي رصصت فيها كرزي الصيف الماضي. وضعت الزّجاجة على الطاولة، وبتنهيدة أخرى، تهيأت لتقعد على الكرسي الرجّاح. لكنها لم تقعد، شيءٌ منعها من القعود هنا. شخصت، وارتدّت إلى الخلف خطوة، وبنصف استدارة، راحت تنظرإليه، وقد تهيأت لها المرأة التي كانت تجلس عليه وتغضّن مريلتها.

بزغ صوت زوجة الشريف الهزيل قائلة: «يجب أن أحضر تلك الأشياء التي أوصت عليها من دولاب الحجرة الأماميّة.» فتحت الباب على الحجرة الأخرى، وهمّت بالدخول، لكنها تراجعت. «أتأتين معي، سيّدة هيل؟» سألت بتوتر. «يمكنكِ مساعدتي في جمعها.» دخلن، ثم عدن فورًا - فصرد هذه الحجرة المغلقة الصارخ ليس شيئًا يسمح بتلكؤ المرء داخلها. «أوّاه!» قالت السيّدة پيترز وقد ألقت بالأشياء على الطاولة وهرعت إلى الموقد. وقفت السيّدة هيل تتفحّص الملابس التي طلبتها المرأة المعتقلة في البلدة. «كان رايت بخيلًا!» قالت منفعلة، وهي ممسكة بتنّورة سوداء رثّة تحمل علامات رقع. «أظنها لهذا قد انزوت بنفسها واعتزلتنا. أظنها شعرت بعجزها عن تأدية ما يقع عليها؛ كما أن المرء لا يستمتع بشيء حين يكون رثًّا. لقد كانت مفعمة بالحيويّة ترتدي ملابسًا أنيقة - أعني حين كانت ميني فوستر، إحدى فتيات البلدة اللاتي يغنّين في الجوقة. لكن هذا - أوه، كان هذا منذ عشرين سنة خلت.» طوت الملابس البالية بعناية تنم عن الحنان وكدّستها على إحدى زوايا الطاولة. رفعت بصرها إلى السيّدة پيترز فإذ ثمة شيء في مظهر المرأة يزعجها. «لا تأبه بميني،» حدّثت نفسها. «كانت ستتأثر حتمًا لو عرفت أن ميني فوستر قد ارتدت ملابسًا أنيقة حين كانت شابة.» عاودت النظر، ولم تكن متأكدة من شعورها؛ في الحقيقة لم تكن قط متيقنة من شيء متعلق بالسيّدة پيترز. فسلوكها متحفظ، ومع ذلك بدا لها أن عيناها تسبر غور الأشياء.

«هذا كل ما ستأخذينه؟» سألت السيّدة هيل. «لا،» أجابت زوجة الشريف؛ «قالت أيضًا أنها تريد مريلة. من المضحك أن تريدها،» غامرت في قولها بطريقتها المتوترة قليلًا، «إذ ليس ثمة ما يوسّخكِ في السجن، الرب يعلم. لكن أظنها أرادتها لتأنس بها. كما تعلمين، أي إذا اعتدتِ على ارتداء مريلة - قالت إنها في الجارورّ الأسفل من هذا الدرج. نعم، ها هي. بقي لفاعها المعلق دائمًا على باب الدرج.» أخذت اللّفاع الرمادي الصغير من خلف الباب الذي يقود إلى الأعلى، وظلت تحدقه لبعض الوقت. فجأة، تقدمت السيّدة هيل في خطوة مباغته باتجاه المرأة الأخرى، «سيّدة پيترز!»
«ما الأمر سيّدة هيل؟»
«هل تعتقدين أنها - من فعلتها؟»
غشت نظرة فزعة عينا السيّدة پيترز. «أوه، لا أعلم،» قالت بصوت يبدّد الموضوع. 
«حسنًا، لا أظنها من فعلت،» أكدت السيّدة هيل بثقة. «لا يمكن أن تفعلها سيّدة تطلب مريلتها، ولفاعها الصغير، لا تفعلها سيّدة قلقة على مربياتها.»
«يقول السيّد پيترز -» باتت خطوات الأقدام مسموعة في الأعلى؛ توقفت، رفعت بصرها، ثم واصلت بصوت منخفض: «يقول السيّد پيترز - أن موقفها ضعيف. السيّد هاندرسن وهو بالغ السخرية في حديثه، سيسخر حتمًا من قولها أنها لم تستيقظ.»
لوهلة، لم يكن لدى السيّدة هيل ما تجيب به. ثم هتملت: «حسنًا، أظن أن جون رايت لم يستيقظ بدوره - حينما لفوا الحبل على رقبته،» 
«نعم، هذا غريب،» نفثت السيّدة پيترز. «يعتقدون أن قتل رجل بهذه الطريقة مضحك.»
قهقهت؛ وما إن صدر صوت الضحكة، توقفت بغتة. 
«هذا ما يقوله السيّد هيل،» قالتها بصوت حازم طبيعي. «ثمة مسدس في المنزل. يقول أن هذا ما لم يستطع فهمه.»
«قال السيّد هاندرسن، مصرحًا، أن الدافع هو الغائب في هذه القضية، أي شيء يكشف وجود الغضب - أو أي شعور مباغت آخر.»
«حسنًا، لم أر علامات تدل على الغضب ها هنا،» قالت السيّدة هيل، «لست -» توقفت. كأن ذهنها قد وقع على شيء. استحوذت منشفة أطباق في منتصف طاولة المطبخ على عينيها. خطت ببطء إلى الطاولة. نصف الطاولة نظيف وممسوح، ونصفها الآخر فوضى. استدارات عيناها استدارة لا إرادية بطيئة إلى جردل السكّر والكيس نصف الفارغ بجانبه. ثمة أشياء بُدئ بها ولم تُتمّم. بعد لحظة تراجعت فقالت، بطريقة من يفضفض: «أتساءل كيف وجدوا الأشياء في الأعلى؟ آمل أنه أرتب من المكان هنا. كما تعلمين،» -توقفت، واحتشد شعورها، -«يبدو ما يحدث تلصّصًا: أن تحبس هي في البلدة ثم يأتون إلى هنا ليجيّشوا بيتها ضدّها!»
«لكن، سيّدة هيل،» قالت زوجة الشريف، «القانون؛ قانون.»
«أظن هذا،» أجابت السيّدة هيل باقتضاب.

استدارت للموقد، وهي تقول شيئًا عن عدم استحقاقيّة هذه النار للتفاخر بها. حاولت أن تذكيها لبعض الوقت، وحين انتهت واستقامت قالت بعدوانية: «القانون؛ قانون، والموقد السيئ؛ موقد سيئ. بماذا ستشعرين لو أنكِ اضطررت إلى الطبخ على هذا؟» - قالت وهي تشير بمسعار النار إلى الطوب المبطِّن المنهار. فتحت باب الفرن وطفقت تعبّر عن رأيها في الفرن؛ لكنها انجرفت في تأملاتها، تفكّر في جدوى مصارعة هذا الموقد سنة تلو سنة، تتخيّل ميني فوستر تحاول أن تخبز في هذا الفرن - تتأمل حقيقة أنها لم تزر ميني فوستر قط. فزّت بسماعها للسيّدة پيترز تقول: «هذا الوضع يُحبط الإنسان - ويضيّع قلبه.»

نظرت زوجة الشريف من الموقد للمغسلة - ثم إلى دلو الماء المجلوب من الخارج. وقفت المرأتان صامتتان، فيما وقع خطى الرجال الباحثين عن دليل يدين المرأة التي عملت في هذا المطبخ يصدر من الأعلى. بدت ثانية في عيني زوجة الشريف التحديقة المخترقة للأشياء الآن. حين تحدثت لها السيّدة هيل في المرة التالية، قالت بلطف: «من الأفضل أن تخفّفي عنكِ، سيّدة پيترز. لن ننشغل بكل هذا حين نغادر.» تراجعت السيّدة پيترز إلى آخر الحجرة لتعلق طيلسان الفرو الذي كانت تضعه حول كتفيها. بعد لحظة تعجّبت، «أوه، لقد أعدت قطعًا للحاف مضرّب،» رفعت سلّة خياطة كبيرة تتطاول منها أكداس رقع التّضريب. نشرت السيّدة هيل بعض المربعات على الطاولة. «هذا نمط كوخ خشبي،» قالت، وقد ضمت الكثير منها لبعض، «أنيق، أليس كذلك؟» لقد تأثرن باللحاف حدّ أنهن لم يسمعن وقع الخطو على الدرج. بفتح باب الدرج قال السيّد هيل: «بظنّكن لتصنع اللحاف من هذه القطع هل كانت ستخيطه أم ستعقده!»
رفع الشريف يداه. «يتساءلن إذا ما كانت ستخيطه أو تعقده وحسب!»  ضحكوا من سلوكيّات النساء، واصلوا تدفئة كفوفهم على الموقد، ثم قال مفوّض المقاطعة بحماسة: «حسنًا، لنخرج إلى الحظيرة ونتفقّد المكان.» وخرجوا. «ليس ثمة ما يستدعي الغرابة،» قالت السيّدة هيل بحنق، بعد أن أُغلق الباب الخارجي خلف الرجال الثلاثة - «إذ نزجّي وقتنا بالأشياء البسيطة هنا فيما ننتظرهم ليعثروا على الدليل. ليس ثمة ما يستدعي الضحك ها هنا.»
«بالطبع ثمة أشياء بالغة الأهمية في أذهانهم،» قالت زوجة الشريف مبرّرةً.

عدن إلى فحص رقع اللّحاف. كانت السيّدة هيل تنظر إلى الخياطة المتقنة الجميلة، انشغلت بأفكار المرأة التي حاكته، حين سمعت صوت زوجة الشريف وهي تقول بنبرة مربكة: «أوه، انظري إلى هذه.» استدارت لتمد لها القطعة المربعة. «للخياطة،» قالت السيّدة پيترز، بصوتٍ مضطرب، «بقيتها رائعة ومتقنة -لكن- هذه القطعة. انظري، كأنها لا تعرف ما تفعل!» التقت نظراتهن، وعبر بينهن شيء استيقظ فيهن للتّو؛ ثم كأنه تطلّب جهدًا، بدا أنهن سحبنه من بعضهن. جلست السيّدة هيل هناك، كفاها معقودتان على تلك القطعة الشّاذة عن بقيّة الخياطة. سحبت العقدة وهلّت الخيوط.
«أوه، ماذا تفعلين يا سيّدة هيل؟» سألت زوجة الشريف فزِعة.
«أفك غرزة أو اثنتين ليست متقنة وحسب،» قالت السيّدة هيل برفق.
«لا يجدر بنا أن نلمس الأشياء،» قالت السيّدة پيترز، بشيء من قلّة الحيلة. 
«سأكمل هذا الطرف وحسب،» أجابت السيّدة هيل، ما تزال بذلك اللطف، والجديّة. 

نظمت خيطًا في الإبرة وطفقت تستبدل الخياطة الرديئة بأخرى جيّدة. واصلت الخياطة في صمت لبعض الوقت. ثم بذلك الصوت الهزيل الخجِل سمعت:
«سيّدة هيل!»
«نعم، سيّدة پيترز؟» 
«برأيكِ ما الذي أقلقها؟»
«أوه، لا أدري،» قالت السيّدة هيل، كأنها تبدّد شيئًا غير مهم بقدر يستدعي أن تخصص له المزيد من الوقت. «لا أدري أكانت قلقة أم لا. فأنا أخيط بشناعة مريبة في بعض الأحيان حين أكون مُتعبة.»

قصّت خيطًا، ومن زاوية عينها راحت تلحظ مراقبةً السيّدة پيترز. بدا وجه زوجة الشريف الصغير الطيّع متشنجًا. كما بدا على عينيها استغراقها في شيء ما. لكنها تحرّكت في اللحظة التالية وقالت بنبرتها الواهنة المترددة: «حسنًا، علي تغليف هذه الملابس. ربما يجيئون أسرع مما نظن. أتساءل أين يمكن أن أجد قطعة ورق ورباط.» أجابتها السيّدة هيل «ربّما في الخزانة،» بعد أن ألقت نظرة على المكان. ظلت قطعة من الخياطة المجنونة لم تهلّ. فيما السيّدة پيترز مديرة ظهرها إليها، تفحصت مارثا هيل القطعة، مقارنة إياها بالقطع الأخرى الأنيقة الدقيقة. كان الفرق مريبًا. خلّف امساك هذه القطعة لديها شعورًا بالاضطراب، كأن ذهن المرأة المشتِّت التي لجأت إليها على الأرجح لتهدأ قد طفق يتسرّب إليها. 
أوقظها صوت السيّدة پيترز. «ثمة قفص طير هنا،» قالت. «هل ربّت طيرًا يا سيّدة هيل؟»، «أوه، لا أعلم أكان لديها أم لا.» استدارت لتنظر إلى القفص الذي تحمله السيّدة پيترز. «لم آت إلى هنا منذ وقتٍ طويل.» تنهّدت. «ثمة رجل في السنوات الأخيرة يبيع الكناري بثمن بخس - لكن لا أدري إن كانت قد ابتاعت منه واحدًا. ربّما فعلت. أتعرفين، لقد كان غناؤها رائعًا هي نفسها.» نظرت السيّدة پيترز حول المطبخ. «من المضحك أن أفكّر بوجود كناري هنا.» ضحكت بتحفّظ - في محاولة لوضع حاجز. «من المؤكد أنها اقتنت واحدًا - وإلا فلم هذا القفص؟ أتساءل ما الذي حل به.»
«ربما التهمته قطّة،» قالت السيّدة هيل مواصلة خياطتها. 
«لا؛ لم يكن لديها قطّة. فلديها ذلك الشعور الذي يشعر به الناس تجاه وجود القطط - أعني الخوف. حينما جلبوها إلى منزلنا يوم أمس، دخلت قطتي إلى الحجرة، فتضايقت حقًا وطلبت مني اخراجها.»
«أختي بيسيه مثلها،» ضحكت السيّدة هيل.
لم ترد زوجة الشريف. أدار الصمت السيّدة هيل. فيما واصلت السيّدة پيترز تفحّص قفص الطير.

قالت ببطء «انظري لهذا الباب. مكسور. إحدى مفاصله قد نزعت.» فاقتربت السيّدة هيل. «يبدو أن أحد الأشخاص قد عامله بخشونة.» التقت عيناهن مجددًا، ذاهلة، متسائلة، قلقة. لم يتحدثن لبعض الوقت ولم يحتركن. ثم ابتعدت السيّدة هيل وقالت بفظاظة: «أرجو أنهم قد اقتربوا من الدليل إن كانوا سيعثرون على أي دليل. لا أحب هذا المكان.»
«لكنني مسرورة جدًا لمجيئكِ معي، سيّدة هيل.» وضعت السيّدة پيترز قفص الطير على الطاولة وقعدت. «سيكون موحشًا لو أنني هنا وحدي.»
«نعم سيكون، أليس كذلك؟» قالت السيّدة هيل موافقةً، ثمة عفويّة واضحة في نبرتها. واصلت الخياطة، لكن القطعة وقعت في حجرها، فتمتمت بنبرة مختلفة: «لكن أخبركِ بما أرجوه حقًا، سيّدة پيترز. ليتني قد زرتها حين كانت هنا. ليتني فعلت.»
«لكنكِ قد كنت مشغولة بالطبع سيّدة هيل. بمنزلكِ وأطفالكِ.»
«كان بمقدوري المجيئ.» عارضت السيّدة هيل بجفاء. «بقيت بعيدة لأن محيطها لم يكن مبهجًا - وهو ذات السبب الذي كان علي أن أزورها من أجله. لكن -تلفّتت حولها- لم أحب هذا المكان قط. ربما لأنه في غور يحجب عن المرء رؤية الطريق. لا أعلم بالضبط لماذا، لكنه مكان موحش، لطالما بدا موحشًا. ليتني جئت لزيارة ميني فوستر من وقت لآخر. أدرك الآن -» سكتت ولم تَصِغ ما تبقى في كلمات. 
«حسنًا، لا تلومي نفسكِ،» نصحتها السيّدة پيترز. «على نحوٍ ما، نحن لا ندري ما يعايشه الآخرون حتى يبزغ شيء ما.»
«غياب الأطفال يخفّف من العمل،» تبصّرت السيّدة هيل، بعد صمت، «لكنه يزيد من هدوء المنزل - ورايت يعمل طيلة اليوم في الخارج- ولا فرق حين يجيئ فليس ثمة أُنس في صحبته. اتعرفين جون رايت يا سيّدة پيترز؟»
«لم أعرفه معرفة شخصيّة. لكنني رأيته في البلدة. يقولون أنه رجل جيّد.»
«نعم - جيّد،» سلّمت جارة جون رايت بعبوس. «لم يكن سكّيرًا، كما كان يلزم كلمته ما أمكن، أظن، كما يسدّد ديونه. لكنه رجل جلف، سيّدة پيترز. تمضية اليوم معه وحدها -» توقفت، وارتجفت قليلًا. «مثل رياح باردة تدقّ العظم.» وقعت عيناها على القفص الموضوع أمامها على الطاولة، ثم أضافت، تقريبًا بمرارة: «لِمَ لم يخطر ببالي أنها بحاجة إلى طائر!» اتكأت، لتنظر عن قرب إلى القفص. «لكن برأيكِ ما حلّ به؟»، «لا أدري،» أجابت السيّدة پيترز؛ «ربما قد مرض ومات.» بعد قولها اقتربت وأرجحت الباب المكسور. راقبته المرأتان وكأنه استحوذ عليهن. «أنت لا تعرفين - ميني؟» سألت السيّدة هيل، وقد غشت صوتها نبرة أرقّ. «ليس قبل احضارها لي يوم أمس،» قالت زوجة الشريف. «كانت - تخيّلي هذا، كانت كعصفور هي نفسها. حلوة حقًا وأنيقة، لكنها خجولة نوعًا ما، رفرافة. كيف -حدث- أن- تغيّرت - هي؟» قالت السيّدة هيل.

شغلها هذا لوقتٍ طويل. أخيرًا، كأنها اصطدمت بفكرة سعيدة وارتاحت إذ عادت إلى الحديث عن الأشياء اليوميّة، قالت بانفعال: «أقول لكِ، سيّدة پيترز، لم لا تأخذي قطع اللحاف المضرّب معكِ؟ ربما يآزرها ذهنيًا.»، «لم لا؟ أظنها فكرة لطيفة حقًا، سيّدة هيل،» وافقتها زوجة الشريف، كأنها بالغة السعادة بوصول الحديث إلى محيط لطيف بسيط. «على الأرجح ليس ثمة ما يمنع هذا، أليس ذلك؟ الآن، ماذا سآخذ؟ أتساءل إن كانت رقعها هنا -وبقية الأشياء؟» استدرن إلى سلة الخياطة. «ثمة بعض الأحمر هنا،» قالت السيّدة هيل وقد جلبت لفّافة قماش، وإذ ثمة صندوق تحتها. «ربما هنا مقصّها وبقية العدّة.» رفعته. «يا له من صندوق أنيق! على ثقة بأنها اقتنته منذ وقت طويل - يعود لحين كانت فتاة.» أمسكته بيدها لوقت؛ ثم، بتنهيدة مقتضبة، فتحته. حطّت يدها فورًا على أنفها. «أوه -!» اقتربت السيّدة پيترز ثم ارتدّت. «ثمة شيء ملفوف في الحرير الأحمر،» قالت السيّدة هيل متلعثمة. «ليس مقصّها،» قالت السيّدة پيترز، بصوت منكمش.  رفعت السيّدة هيل قطعة القماش بيد لا تستقر. «أوه، سيّدة پيترز!» صاحت.

«إنه -»
مالت السيّدة پيترز إليها.
«إنه الطير،» وشوشت. 
«لكن سيّدة پيترز!» صاحت السيّدة هيل. «انظري له! لعنقه - انظري لعنقه! كلها - حتى الجهة الأخرى.»
أبعدت الصندوق عنها. اقتربت زوجة الشريف أكثر ثانية. «أحدهم لوى عنقه،» قالت، بصوتٍ بطيء وعميق.

حينها التقت عيون المرأتان ثانية -هذه المرة تضافرت في نظرة تنم عن إدراك مباغت، نظرة رعبٍ متصاعد. نظرت السيّدة پيترز من الطير الميّت إلى باب القفص المكسور. تلاقت نظراتهن مرة ثالثة. حينها جاء صوت من الخارج. خبأت السيّدة هيل الصندوق أسفل قطع التضريب في السلّة، وغاصت في الكرسي المقابل. أما السيّدة پيترز فوقفت عند الطاولة. دخل مفوّض المقاطعة والشريف القادمان من الخارج.
«حسنًا، أيّتها السيّدات،» قال مفوّض المقاطعة، مثل من يتحول من القضايا الجادّة إلى المجاملات البسيطة، «هل توصلتن إلى قول أكانت ستخيطه أم ستعقده؟»
«نظن،» قالت زوجة الشريف بنبرة متوتّرة، «أنها عزمت على أن - تعقده.»

حجبه انشغاله عن ملاحظة التغيّر في نبرتها بنطقها للعبارة الأخيرة. «حسنًا، هذا ملفت للغاية، بالتأكيد،» قال مجاريًا. انتبه إلى قفص الطير. «هل طار الطير؟»
«نعتقد أن القطة قد التهمته،» قالت السيّدة هيل بنبرة هادئة مغايرة.
كان يسير جيئة وذهابًا، كأنه يهجس في شيء. «هل ثمة قطة هنا؟» سأل شاردًا.
سددت السيّدة هيل نظرة لزوجة الشريف. «حسنًا، ليس بعد،» قالت السيّدة پيترز. «فهي غير منتمية كما تعلم؛ تغادر حيث تشاء.» ثم غاصت في المقعد. 

لم ينتبه مفوّض المقاطعة إليها. «لا أثر لدخول أي أحد من الخارج،» قال لپيترز، كمن يستأنف محادثة سابقة. «كما أن الحبل حبلهم. الآن لنعد إلى الأعلى ثانية ونتفحص من جديد، قطعة قطعة. لا بد أنه شخص يعرف تمام المعرفة -» أُغلق باب الدرج خلفهم فغابت أصواتهم. ظلت المرأتان بلا حراك، دون أن تنظر إحداهن إلى الأخرى، بالأحرى كنّ كمن يسترق النظر ويمتنع في الآن نفسه. ثم عندما تحدثن بعدها بدا أنهن يخفن مما يقلنه إلا أنهن يعجزن في الوقت نفسه أن يمسكن عن قوله. «لقد أحبّت الطير،» قالت مارثا هيل، بصوت منخفض وبطيء. «كانت ستدفنه بهذا الصندوق الأنيق.»

«عندما كنت طفلة،» قالت السيّدة پيترز، بصوت أدنى من نَفَسها، « كان لدي هرّة - ثمة ولد أمسك بساطور وأمام عيني، قبل أن أستطيع الوصول إليها -دسّت وجهها فورًا- لو لم يمنعوني عنه» - أمسكت نفسها، ثم نظرت إلى الأعلى، إلى مصدر وقع الخطى الذي نسمعه، وأكملت بوهن: «لوصلت إليه وآذيته.» ثم جلستا دون حراك أو كلام. «أتساءل كيف يكون الحال في غياب الأطفال عن المكان؟» تحدّثت السيّدة هيل أخيرًا، كمن يتحسس طريقه في أرضٍ غريبة - مسحت عيناها المطبخ ببطء، كأنها ترى ما الذي شكّله المطبخ كل هذه السنوات «لا، لا يمكن أن يحب رايت الكناري، لا يمكن أن يحب كائنًا يغنّي. ميني كانت تغنّي فيما مضى. لقد قتل غناء الكناري أيضًا.» تشنّج صوتها. تحركت السيّدة پيترز بانزعاج. «بالطبع لا ندري من قتل الكناري.» قالت، «أنا أعرف، جون رايت،» جاء جواب السيّدة هيل. «ثمة شيء مريع ارتكب في المنزل تلك الليلة، سيّدة هيل،» قالت زوجة الشريف. «مقتل رجل أثناء نومه - لف شيء حول عنقه أطفر منه الحياة خنقًا.» امتدت يد السيّدة هيل إلى قفص الطير. «لا نعرف من قتل الرّجل،» همست السيّدة پيترز بهياج «نحن لا نعلم.»

لم تتحرك السيّدة هيل. «اسمعي، إن كان ثمة سنين ممتدة من - اللا شيء، ثم تحظين بعدها بكناري يغنّي لكِ، سيكون شنيعًا حين -سكتت وعمّ الركود قبل أن تكمل- يعقب هذا الغناء ركود الطائر.» كأن شيئًا بداخلها يتحدث لا هي، كما عثر هذا الشيء في السيّدة پيترز على شيء لم تعرفه في نفسها من قبل. «أعرف ماهيّة الركود،» قالت، بصوت متوعِّك رتيب. «عرفته عندما سكنّا بيتًا في «داكوتا»، ومات طفلي الأول -بعد أن بلغ العامين- وبقيت بلا أحد حينها -» تزحزحت السيّدة هيل، «متى تظنين أنهم سيصلون الدليل؟» قالت.

«أعرف ماهيّة الركود،» كرّرت السيّدة پيترز، بنفس الطريقة. ثم تراجعت بدورها. «لكن لا بد أن يفرض القانون العقوبات على الجرائم، سيّدة هيل،» قالت بطريقتها المتحفظة. «ليتكِ رأيتِ ميني فوستر،» كان ردّ السيّدة هيل، «وهي ترتدي فستانًا أبيضًا بشرائط زرقاء، وتقف وسط الجوقة لتغنّي.» صورة تلك الفتاة، وحقيقة جيرتها لهذه الشابة منذ عشرين سنة، وتركها لهذه الشابّة تموت لعوزٍ في الحياة، بدا لها العبء الذي لا يحتمل. «آه! ليتني زرتها من وقت لآخر!» قالتها باكية. «ما حدث لها جريمة! من يعاقب على تلك الجريمة؟»

«يجب ألّا نواصل على هذا النحو،» قالت السيّدة پيترز، وهي تنظر برعب إلى الدرج. 
«كان علي إدراك حاجتها للمساعدة! أخبركِ، ما أغرب هذا، سيّدة پيترز، فنحن نعيش بالقرب من بعضنا، إلا أننا متباعدات في الوقت نفسه، نعايش جميعنا الأشياء ذاتها - فكل ما نعيشه تنويعات من الشيء نفسه! لو لم يكن كذلك - فلِم نفهمها أنا وأنتِ؟ كيف نعرف ما نعرفه الآن؟» مسحت عيناها بكفها. ثم، وهي تنظر إلى برطمان مربّى الفاكهة على الطاولة اقتربت منه ورجّته: «لو كنت في مكانكِ لن أخبرها بخراب مربّياتها! قولي أنها لم تخرب. قولي أنها جيّدة - كلها جيّدة. هنا، خذي هذه دليلًا! فهي - فهي ربّما لن تعرف أبدًا إذا ما كانت قد خربت أم لا.» أنهت كلامها واستدارت مبتعدة. أمسكت السيّدة پيترز بزجاجة مربّى الفاكهة كأنها مسرورة بأخذها - كأنها تلمس شيئًا يبسط الألفة، لديها شيء تقوم به، يمكنه أن يشغلها عن أمرٍ آخر. حملته، التفتت بحثًا عن شيء تلفه به، أخذت شلحة من كومة الملابس التي جلبتها من الحجرة الأماميّة، وبارتباك طفقت تلفّها حول الزجاجة. «ياه!» تحدثت، بصوت مرتفع، «من الجيّد ألّا يمكن للرجال سماعنا الآن! لو سمعونا نجعل كل الأمور تدور حول شيء هامشي مثل - كناري ميّت.» تعجّلت في قولها لهذا. «كأن لهذا الأمر الهامشي علاقة بأمر … بأمر - ياه، ألن يسخروا منا لهذا الربط؟» بات وقع الخطى مسموعًا على الدرج. «ربّما وربّما لا.» هتملت السيّدة هيل. 

«لا، پيترز،» قال مفوّض المقاطعة بثقة؛ «كل شيء واضح، عدا دافع الجريمة. لكنك تعرف هيئة المحلفين حين يصل الأمر للنساء. ليت لدينا شيء محدّد - شيء نظهره. شيء ننسج منه قصّة. شيء متصل بطريقة قتله الخرقاء.» بسريّة نظرت السيّدة هيل إلى السيّدة پيترز التي نظرت بدورها إلى السيّدة هيل. بسرعة أشاحت كل واحدة منهن ببصرها عن الأخرى. فُتح الباب الخارجي وإذ بالسيّد هيل يدخل. «جلبتُ الخيل،» قال، وأكمل «البرد شديد في الخارج.»

«سأمكث هنا بمفردي لبعض الوقت،» أعلن مفوّض المقاطعة فجأة. «يمكنك أن تستدعي فرانك من أجلي، أليس كذلك؟» سأل الشريف. «سأتفحّص كل شيء. لست قانعًا بعجزنا عن تحقيق ما هو أفضل.» 
مجددًا، للحظة خاطفة، عثرت عيون المرأتان على بعضها. تقدّم الشريف إلى الطاولة وقال: «هل تريد أن ترى ما ستأخذه السيّدة پيترز لها؟» أمسك مفوّض المقاطعة المريلة وضحك. «أوه، آمل أن السيّدات لن يأخذن لها أشياء خطرة.» كانت يد السيّدة هيل على سلّة الخياطة التي أُخفي بداخلها الصندوق. شعرت بضرورة رفع يدها عن السلّة لكن يبدو أنها لم تقدر. التقط واحدة من مربعات لحاف التّضريب التي كانت مكدسة لتغطية الصندوق. فاتقدت عيناها نارًا. شعرت أنها ستختطف السلة منه لو أخذها، لكنه لم يأخذها، وبضحكة أخرى، استدار قائلًا: «لا؛ السيّدة پيترز ليست بحاجة للاشراف. ببساطة لأن زوجة الشريف متزوجة من القانون. هل فكرتِ قط في زواجكِ على هذا النحو سيّدة پيترز؟» كانت السيّدة پيترز تقف بجانب الطاولة. صوّبت السيّدة هيل نحوها نظرة؛ دون أن تستطيع رؤية وجهها فيما هي جالسة. أقفت السيّدة پيترز، وفيما تحدّثت، خفت صوتها. «لم أفكر به - هكذا،» قالت.
«متزوّجة من القانون!» ضحك زوج السيّدة پيترز خفيّة. 
قصد باب الحجرة الأماميّة، وقال لمفوّض المقاطعة: «أريدك أن تجيئ معي هنا قليلًا، جورج. لا بد أن نلقي نظرة على هذه النوافذ.»
«أوه - نوافذ،» قال مفوّض المقاطعة مزدريًا.
«سنخرج فورًا، سيّد هيل،» قال الشريف للمزارع الذي كان يقف بالباب منتظرًا.
خرج هيل ليدبّر الخيل. تبع الشريف مفوّض المقاطعة للحجرة الأخرى. مجددًا -للحظة أخيرة- ظلت المرأتان لوحدهن في المطبخ.

اندفعت مارثا هيل، ويداها مقبوضتان، تنظر إلى المرأة الأخرى، التي صارت ترتاح لها. لم تستطع في البدء أن تشاهد عيناها، إذ لم تستدر امرأة الشريف منذ أن أقفت حين الإشارة بزواجها من القانون. لكن السيّدة هيل الآن أدارتها، عينا السيّدة هيل دفعتها لتستدير. ببطء، دون إرادة، أدارت السيّدة پيترز رأسها حتى التقت عيناها بعيني المرأة الأخرى. ثمة لحظة أمسكن فيها بعضهن البعض بنظرة ثابتة محترقة، لا يخالطها تهرّب أو جفول. 

ثم أشارت عينا مارثا هيل إلى السلّة التي أُخفي فيها الشيء الذي سيشكل إدانة أكيدة للمرأة الثالثة - المرأة التي لم تكن هنا بيد أنها حاضرة معهن في الوقت نفسه طيلة تلك الساعة. لوهلة لم تتحرّك السيّدة پيترز. تحرّكت بعدها باندفاعة، ألقت قطع التّضريب، ثم أخرجت الصندوق، وحاولت أن تدسّه في حقيبة يدها لكنه يفوقها حجمًا. فتحته بيأس، وراحت تحاول أن تخرج الطائر. لكنها انهارت آنذاك - إذ لم تستطع أن تلمس الطائر، فوقفت عاجزة لا تعي ما تفعل.

صدر صوت عروة الباب الداخلي. اختطفت مارثا هيل الصندوق من زوجة الشريف، ودسّته داخل جيب معطفها الكبير في اللحظة التي دخل فيها الشريف ومفوّض المقاطعة إلى المطبخ. «حسنًا، هنري،» قال مفوّض المقاطعة هازئًا، «على الأقل اكتشفنا بفضل السيّدات أنها لم تنو أن تخيطه. كانت سوف - ماذا تسمين ذاك الفعل، يا سيّدات؟»
«نسميه، تعقده، سيّد هاندرسن.»

هناك تعليق واحد:

  1. معلومات جميلة !! لا أستطيع الانتظار إلى رسالتك التالية!
    تعليق بواسطة: muhammad solehuddin
    تحيات من اندونيسيا

    ردحذف