الأحد، 2 أبريل 2023

موسم ربيع نجد.


أحبّ نجد، ولا أدري إن كان هذا الحب سينبت في قلبي تجاهها لو لم أكن من نجد، لكنني كما لا أستطيع تصوّر نفسي ابنة لغير أهلي وبيتي، لا أستطيع تصوّر نفسي من أهل أي مكانٍ آخر وإن تزحزح شبرًا خارج عالية نجد، وربّما شبرًا خارج ديرتي بالأخص، وكما أؤمن أن الإنسان ابن بيئته بأوسع ما تحويه هذه العبارة، فلا أتصوّر أيضًا أن أكون أنا أنا لو لم تكن نجد العذيّة الصحراويّة من مكوّناتي التي شكّلتني. أحب نجد، هكذا (نجد)، دون أن أنزل عليها أي علامة إعراب، وليس للأمر علاقة بمسألة «كسرها» مثل القصة الملفّقة على ميّ زيادة والعقّاد، بل هذا مبناها الذي أحب، متجرّدًا من الحركات. أفكّر أحيانًا أنني لو تسمّيت باسم غير اسمي لربّما كان نجد -لبعض الوقت، ثم سأنتقل لبقيّة الأسماء التي أحبّها من وقت لآخر!-. وإن غضبت منها قلت ما قاله الشاعر مرزوق الثبيتي: «ليت لي قلب ما ياوي ولي جنحان طير، كان نجد أترك وطاها وروس هضابها، مير لا متّ والعمر لابن آدم قصير، ادفنوني في ثراها ووسط ترابها» ثم عدت أحبّها أكثر. عادةً ما يبدأ موسم ربيع نجد من منتصف أو أواخر الشتاء، قبل موعده الفلكي، فتخضرّ الأرض وتزهر بمختلف الأزهار زاهية الألوان، فثمة الأبيض والسماويّ والبنفسجي والخبّازي والأرجوانيّ والأحمر والزهريّ والأصفر. أحب في الأزهار البريّة أنها تنبت دونما زراعة، عذيّة تنمو وتزهر على ماء السماء لا تستسقي ولا تُسقى غيره، تستقل في وجودها دونما رعاية، وتنوس كتلويحة يدٍ صغيرة في بيداء شاسعة مهيبة، تباغت العين كأنما تبزغ فجأة في الأفق. أحب أنها تمثّل لي ما أحبّ في الوجود وأنشد: الرقة والزهو والصمود، في جمالها الوادع رغم موسميّتها الوقتيّة، ونشوزها بألوانها غير المتوقّعة عن جرد الصحراء من حولها، وسموّها الفارق من بين شقوق الأرصفة والإسمنت في دكنة المكان. من أجل كل هذا وأكثر نظمت مؤخرًا تعليقة لمفتاح سيارتي تحمل كلمة «زهرة بريّة».

 

* ملاحظة: يمكن تكبير الصور بالنقر عليها للمزيد من الوضوح.

 

العضيد (Launaea mucronata)، الكحيل (Echium rauwolfii)، الربلة ((Plantago amplexicaulis، الثغر (orettia parviflora):

 

العضيد الشرارة. 
قبيل سنوات، وأنا أجلس في صفّي أقرأ ديوان شعر مترجم في واحدة من حصص فراغي، طرقت بنيّة صغيرة من الصف الرابع الابتدائي الذي بدأت تدريسه حديثًا الباب تستأذن للدخول، جاءت مسرعة ووضعت منديلًا أبيض صغيرًا داخله شيء أصفر على مكتبي وقالت إنها هديّة لي وراحت تركض بمريولها الزهري خارجة قبل أن ترى ابتسامتي حالما كشفت عن الهديّة. كانت زهرة بريّة صغيرة، لم أعرف آنذاك ما اسمها. أغلقت عليها الديوان ليضغطها وتجف فيه، ظلت الزهرة التي عرفت لاحقًا أنها «العضيد» معي منذ ذلك اليوم حتى اللحظة التي أكتب فيها هذه التدوينة، في الديوان نفسه. أحب اسم هذه الزهرة عند بدو نجد: العضيد، وأستخدمها حصرًا ولا أفضّل أسماءها الفصحى من يعضيد وطرخشقوق وترخجقوق -المعذرة لكن ما هذه العداوة التي ترمى بها زهرة حلوة؟- وأحب كثيرًا من أسماء الزهور التي تبنّوها باختلاف طفيف عن نظيرها الفصيح.

 

«اليَعْضِيدُ بقلة، وهو الطَّرْخَشْقوق، وفي التهذيب: التَّرْخَجْقوق. قال ابن سيدهواليعضيد بقلة زهرها أَشد صفرة من الوَرْس، ... وقيل: هي بقلة من بقول الربيع فيها مَرارة.

وقال أَبو حنيفة اليعضيد بقلة من الأَحرار مرة، لها زهرة صفراء تشتهيها الإِبل والغنم والخيل أَيضاً تُعْجِبُ بها ...» 

- لسان العرب.

 

التقيت بالصغيرة بعدها وشكرتها على الهديّة التي توقّعت أنها قطفتها منذ اليوم السابق وسألتها كيف حافظت عليها منتعشة البتلات؟ فأخبرتني أنها حديثة القطف، وأن فناء المدرسة الخلفي -الذي لم أقصده قبلًا- مملوء بالزهور. أشعلت فيّ تلك الصغيرة بعضيدتها المشعّة ثانيةً ولعي بمطاردة الزهور البريّة. فصرت أفتّش فناء المدرسة في مواسمها بحثًا عنها، فأجد العضيد بصفرتها الفاقعة والكحيل ذات الألوان الزاهية المتراوحة من الزهري إلى البنفسجي -من أسمائها الكحلاء والكحيلاء ، والربلة والثغر -أو العفراء وهو اسمها الذي أحبّ، وبالمناسبة عفراء اسم علم مؤنث أحبّه أيضًا- ببياضهن الناصع الذي يدهشني صموده بعد كل موجة تسبّب الغبار والطين، بوجودهن المستمر رغم رقّتهن كأن هنالك من يتولّاهن بالحماية والتنظيف، والزهرة التي طاردتها طويلًا على بعد ساعة ونصف من بيتي بعد ذلك على مرّ أسابيع وفاجأتني في مكان غير متوقّع وكان لي معها قصّة سلّتني. 

 

«الكَحْلاء عُشْبة سُهْلية تنبُت على ساقٍ، ولها أَفْنان قليلة ليِّنة وورَق كورَق الرَّيْحان اللِّطاف خضرٌ ووَرْدة ناضرة، لا يرعاها شيء ولكنها حسنة المَنْظَر.» - لسان العرب، وفي القاموس المحيط عن نسغها: «أحْمَرُ كالدَّمِ، يَصْبُغُ اليَدَ إِذا مُسَّ، مَنْبِتُه الأرضُ الطَّيِّبَةُ التُّرْبَةِ.»

 

«الثغر من خيار العُشْبِ، وهي خضراء، ... وزَهْرتَها بيضاء، ينبت لها غِصَنَةٌ في أَصل واحد، وهي تنبت في جَلَدِ الأَرض ولا تنبت في الرمل.»

 

«الرَّبْل: ضروب من الشجر إِذا بَردَ الزمان عليها وأَدبر الصيف تَقطَّرَت بورق أَخضر من غير مطر، يقال منه: تَرَبَّلت الأَرض.»

- لسان العرب.

 

الحلاوى :(Fagonia indica Burm)

 

في أحد الأيام من العام الماضي، مررت صباحًا في طريقي للمدرسة بالحلاوى التي تعجّبت من طول عمرها مقارنة ببقيّة الزهور البريّة في المنطقة، كانت قد أزهرت منذ مدة طويلة وما تزال آنذاك على حالها هذا. عندما خرجت في الظهيرة هممت بتصويرها كي أبحث عن معلوماتها -حينها لم أعرف اسمها حتّى- فلم أجد ولا بتلة واحدة في ذلك المكان، مجرد نباتات شوكيّة. ظننت أنني توهّمت وجود زهرة بنفسجيّة بخمس بتلات رقيقة تتوسطها أسدية صفراء -أشكّ في نفسي أحيانًا، لذا شككت أن توهّماتي تصل إلى خلق الزهرة من خيالي-. في صباح اليوم التالي مررت بنفس الرقعة النابتة فرأيت الزهور البنفسجيّة الفاتحة ثانية، فقلت لنفسي: آها! مؤكد أنني بحثت ظهيرة يوم أمس في بقعة خضراء أخرى! استدرت فلم يكن في المكان غير هذه البقعة، ولأنني متأخرة بما يكفي لم أود أن يؤخرني تصوير النبتة فقلت إنني سأصوّرها ظهرًا، لكنني نسيت ظهيرة ذلك اليوم، وهكذا على مدار أسبوع كامل، إما أراها في الصباح وأنسى البحث عنها ظهرًا، وإما أنساها في الصباح ولا أجدها إذا ذكرتها ظهرًا. في يوم مبارك تذكّرتها صباحًا، وأظنني كنت قد بكّرت في المجيء إلى المدرسة لذلك وجدت وقتًا كافيًا لتصوير تلك الزهور، صوّرتها لأبحث عنها ولأقطع شكي بأنها موجودة حقًا. في اليوم نفسه أيضًا تذكّرتها في الظهيرة فقصدت الرقعة الخضراء لأراها ثانية ولكن لا شيء! هذه المرة انحنيت على النبتة بحثًا عن الأزاهير، وقد كنت قبل هذه المرة أراها من علوٍ، أمعنت النظر فوجدت أن الزهرة موجودة لكنها ليست بنفسجيّة، بل بيضاء، وليست متفتّحة، بل منغلقة ومنكمشة. لهذا بدت لي في المرات السابقة التي بحثت عنها فيها وأنا أطالعها من مسافة قطع منديل أو بقايا قطن صغيرة للغاية عالقة في الشوك. على مرّ الأيام التالية صرت أبكّر في مشواري كي ألحق بها قبل أن تنام، لأن رمضان قد حان آنذاك وبتّ أصل إلى مدرستي على التوقيت الرمضاني قبيل الساعة العاشرة صباحًا، لحقت بها في بعض الأيام، وسبقتني إلى النوم في أخرى، ووجدتها قد أبيضّت في أيام، وفي أخرى كانت في طور انغلاقها البنفسجي، ووجدت زهرة مارقة عن جماعتها ذات مرّة، نامت كل الزهرات إلا هي -أو ربما أنها نامت معهن ثم استيقظت مثلما فعل مومين حين استيقظ من بيات قوم المومين الشتوي في «منتصف الشتاء في وادي المومين» لتوڤه يانسون-. عرفت بالملاحظة أن زهر الحلاوى يتفتّح في ساعات الصباح الأولى وحالما ترتفع الشمس وتشتدّ بنغلق وينكمش ويبيضّ. 

 

«الحلاوى من الجَنْبة: شجَرة تدوم خُضْرتَها، وقيل: هي شجرة صغيرة ذات شوك. نَبْتة زَهْرتها صفراء ولها شوك كثير وورق صغار مستدير مثل ورق السذاب، والجمع حُلاوَيات، وقيل: الجمع كالواحد. التهذيبالحَلاوى ضرب من النبات يكون بالبادية، والواحدة حَلاوِيَة ...» - لسان العرب.

 

لي في يمين البيت مركن ثابت، من أجل هذا لم ألتفت إلى يسار البيت قط، وبعد أن قضيت أيامًا طوال في مطاردة الحلاوى، على بعد ساعة ونصف من بيتي، والتبكير في المسير من أجلها، ثم في أحد الأيام ركنت سيّارتي يسار بيتنا على غير العادة. عندما خرجت في اليوم التالي واتْجهت إليها انتبهت إلى حلاويات منبثقة من شقوق رصيف البيت، على يساره الذي لم تخطر ببالي فكرة النظر إليه. ضحكت وقلت في نفسي: صدق من قال ما تبحث عنه بعيدًا يقطن بقربك! وشاركت هذه الفكرة على حسابي في انستغرام، فعلّقت صديقة بقولها: «أظنها لحقتك.» وما أرق خيالها إذ رأت أن تقتفي الزهرة أثري!

 

الحلاوى متفتّحة.
الحلاوى في أول انغلاقها.
هذه صور الحلاوى التي التقطتها العام الماضي، ليست أجود الصور لكنّها تفي بغرض ما أود أن أشير إليه. في الصورة الأولى زهرتها متفتحة في الصباح الباكر، وقد عرفت حين اكتشفت وجودها بجانب بيتي، إذ صار بوسعي أن أراقبها على فترات متفرقة كثيرة طيلة اليوم، أنها تتفتّح من وقت السحر. في الثانية أول ما تنغلق مع زيادة درجة الحرارة، بناءً على ما لاحظت من اختلاف لمواقيته على مرّ الأشهر. ثم تبيَضّ بتلاتها تدريجيًا وتصل لما هي عليه في الصورة الثالثة عند اشتداد الحرارة في الظهيرة غالبًا. 


 

الحلاوى مُبيضّة.

في تلك الفترة كنت قد بدأت الذهاب إلى العمل بسيّارتي تخلّصت من أزمة مواصلات العمل وقيودها، صرت أتوقف حيث شئت على الطريق الطويل متى شئت قدر ما شئت -لا تخبروا أمي-، كلّما لفتني لون في الصحراء على جنبات الطريق أدرت مقود سيّارتي وتوجّهت إليه، لكن في حدود الردميّة -الطريق الممهّد غير المعبّد بالإسفلت- وحسب، فسيّارتي ليست مؤهلة لما هو أبعد دون خطر التغريز

يا إلهي، ما أجمل قول سيّارتي! -أحبّها وأحب من وثائقي رخصة السير إذ تحمل معلوماتنا معًا-.

 

 

الحوذان (Picris babylonica)، العرار (Pulicaria guestii)، الجثياء (Pulicaria undulata):

 

في إحدى الأيام، في ظهيرة رمضانيّة، لفتتني صفرة مشعّة على جانب الطريق، فتوجهت إليها. أوقفت السيارة بجانب البقعة الصفراء وهي مشغّلة، واكتفيت بوضع ناقل الحركة في (N) ونزلت. لم تبد الأرض لي منحدرة أبدًا، لكنني عرفت هذا حين غابت سيّارتي عن زاوية عيني وأنا منبهرة بالحوذان والعرار والجثياء -الجثجاث-، جميعها صفراء، وشميمها المنتشر في المكان، عرفت حينها شميم العرار الذي تحسّر عليه شاعر بيت «تمتّع من شميم عرار نجد، فما بعد العشيّة من عرار.» ولا فرق عندي إن كان لقيس بن الملوّح أو للصمّة القشيري أو غيرهما. انحدرت السيّارة ببطء شديد إلى الطريق الذي يتوسّط القريّة التي توقّفت فيها كثيرًا بعد ذلك من أجل الربيع الأصفر، لحقت بها وأوقفتها وأنا فزعة أتصوّر أنها انحدرت بسرعة واصطدمت بشاحنة أراها في الأفق، نجوت بميل الأرض الخفيّ البسيط. ثم تحول الفزع إلى قهقهة، ورحت أتلفّت إن رآني أحدٌ أم لا، لم أرغب أن تصل الحكاية إلى طالباتي وأنا حديثة عهد بالقيادة ولديّ تحسّس من الأخطاء بهذا الخصوص في تلك المرحلة -تجاوزت التحسّس أسرع مما توقّعت-. من بعدها حتّى عند بيتي لا أترك السيّارة في (N)، بل ولا أتركها مشغلّة إن نزلت منها ولو كان لبضع دقائق. 

 

«الحَوْذانُ نبت يرتفع قدر الذراع له زهرة حمراء في أَصلها صفرة وورقته ... وهو من نبات السهل حلو طيب الطعم؛ وهو نبات مثل الهِنْدِبا ولها زهرة صفراء. وفي حديث قس عمير حَوْذانالحوذان نبت له ورق وقصب ونَور أَصفر.»

 

«الجَثْجاثُ: نَبات سُهْليٌّ رَبيعي إِذا أَحَسَّ بالصيف وَلَّى وجَفَّ؛ قال أَبو حنيفة: الجَثْجاثُ من أَحرار الشجر، وهو أَخضر، ينبت بالقَيْظ، له زهرة صَفْراء كأَنها زَهْرةُ عَرْفَجةٍ طيبةُ الريح تأْكله الإِبل إِذا لم تجد غيره ... واحدتُه جَثْجاثَةٌ. ... الجَثْجاثُ شَجر أَصفرٌ مُرٌّ طَيِّبُ الريح، تَسْتَطِيبُه العربُ وتكثر ذكره في أَشعارها. ... وشَعَرٌ جُثاجثٌ، بالضم، ونبت جُثاجث أَي مُلْتَفٌّ.»

 

«العرار: بَهارُ البَرِّ وهو نبت طيب الريح؛ قال ابن بري: وهو النرجس البَرِّي؛ ... واحدته عَرارة؛ قال الأَعشى: بَيْضاء غُدْوَتها، وصَفْـراء العَشِيّة كالعَرارة، معناه أَن المرأَة الناصعةَ البياض الرقيقةَ البشرة تَبْيَضّ بالغداة ببياض الشمس، وتَصْفَرّ بالعشيّ باصفرارها.» 

 

يتشابه الجثجاث والعرار كثيرًا، وهما المذكوران في بيت كثير عزّة الذي استنكرته سكينة بنت الحسين، حين قال إن عزّة متطيبة بالمندل أطيب من أرض تعبق بالجثجاث والعرار، وأشارت إلى ضعف الصورة البلاغية، فما من واحدة تتطيّب بالمندل إلا وتفوق ما سواها في طيب الرائحة. وأتمّت بعد أن قالت له «ويحك!» بقولها: «ألا قلت كما قال عَمّك امرؤ القيس:

ألم تَريَاني كُلما جِئْتُ طارقًا، وجدتُ بها طِيبًا وإن لم تَطَيّبِ.»

 

 

اليهق (Diplotaxis acris):

 

اليهق.


خلال واحدة من مشاويرنا إلى البرّ وأنا صغيرة، سرت كعادتي منشقّةً عن البقيّة، في وجهتي الخاصّة. وجدت حينها شجيرة مليئة بالشوك لها ثمار حمر صغيرة، تشبه الطماطم في القشرة الخارجيّة، قطفتها وأكلتها، وأنا أتذكر الحادثة قبل سنوات قلت لا بد أنها لذيذة لأني حمّلت جيوبي منها آنذاك وجازفت بالتعرّض لوخز الشوك -وأنا لا أحب أن أؤلم نفسي أدنى ألم- وعدت بها إلى أهلي كي يتذوّقونها. حين أفرغت جيوبي أمام أهلي وُبِّخت على ما حملت! كانت ثمار «العوشز» المحرّمة كما نسمّيها، أو العوسج كما هي في الفصحى. للعوشز خرافة عند البدو تقول إنها من أشجار الجن، معها يخرجون من تحت الأرض إلى سطحها، وهي في حمايتهم، لذلك لا يؤكل ثمرها ولا تُقرب هذه الشجرة حتّى، وثمة من يبالغ في الخرافة وأظن هذه المبالغة للتسلية فيقول إن ترك الصغار في محيط العوشز يعرّضهم لنشل الجنّ الذين يستبدلونهم بفرد من الجن يطابق البشريّ المنشول، ويسمّى الجني البديل هذا «المشيول» في إشارة للطفل الذي شاله الجن. قبل أيّام تأكّدت لي حلاوتها من مثل قرأته في أحد كتب الأمثال يقول: «أحلى من مصعة.» يضرب لأمرٍ شديد الحلاوة، والمصعة ثمرة العوسج، كم فوّت البدو على أنفسهم من مصع شهيّ بهذه الخرافة! وبالعودة إلى سنين الصغر، كنت قاطفة يهق وحميّض محترفة ومتفانية. كان لنبات اليهق والحمّيض مكانة مميّزة، فهما مما يؤكل من نبات الصحراء. اليهق هو الجرجير البرّي، وقد سمّاه العرب النهق والأيهقان، لكن طبعًا اسمنا له أجمل! حين يحين موسمهما، كنّا نذهب إلى الجبال لقطفهما. يحمل كل واحد منّا كيسين ليضع فيها ما قطف، أحدهما لليهق والآخر للحمّيض، كنت أصعد إلى قمة الجبل، فلا تحب أمي أن تأكل ما ينبت في أسفله، وعندما أقرّع القمة أنزل وأكمل على صدف الجبل وأتوقف عند أسفله. نقطف الكثير منه، وأحيانًا على أيام من جبال عديدة، نبقي على بعضه ونهدي الآخر. لم يخطر لنا أكل زهرة اليهق الخبّازية الأخّاذة من قبل، لكنني أكلتها في الشهر المنصرم وأعجبتني، بعدما أكلت زهرة الفنون، وببحث سريع تبيّن لي أنها مما يؤكل من نبات البرّ أيضًا! 

 

في معرض بحثي عن اليهق (الخفج اللاذع) وجدت في اللسان: «الأيهقان: ... عشبة تطول في السماء طولًا شديدًا ولها وردة حمراء وورقة عريضة.» لفتني أنه سمّى لونها بالأحمر، فيما اللون الذي أراه خبّازي «Mauve». استبعدت في البدء أن يسمّي اللسان الخبازيّ أحمر، قلت لا بد من وجود خفج أحمر الزهر كأبيض الزهر وأصفره، فبحثت ولم أجد. خطر لي بعدها التحقق من الخاطر الذي استبعدته، بحثت بأقرب لون للخبّاز أرجّح وروده في اللسان وهو الأرجوان، فوجدت: «الأرجوان: الأحمر.» ثم بحثت عن الخزامى فوجدت في لسان العرب: «عُشْبَةٌ طويلة العيدان صغيرة الورق حمراء الزهرة طيبة الريح …». يبدو أن العرب سمّت الخبّازي أحمر، يرجّح هذا لون زهرة اليهق والخزامى البيّن والقياس على الأرجوان.

 

 

الفنون (Arnebia hispidissima):

 

الفنون.

الفنون البهيّة الصفراء، من أوائل الزهور التي ولّعتني بالبحث عن أسماء النباتات البريّة ووصفها منذ سنوات طويلة، قبل أن يسهل البحث أكثز كما هو اليوم. تسمى أيضًا الأطن والفهنة وحشيشة الأرنب ومليح، كما تسمى أرينبة -تصغير أرنب-، ودميم الغزال -دميم تصغير دم- لأن نسغها أحمر، ورد أن البدويات استخدمنه لتحمير الخدود والشفاه، وهو يستخدم حتى اليوم في بعض البلدان ملوّن طعام وأقمشة، كما قرأت وسمعت أن البدو يستخدمون زهرة الفنون لتحلية حليب الإبل، كما تؤكل لوحدها وهي حالية الطعم، لكنني حين سألت كبار العائلة لم يذكروا غير تحلية الحليب بزهورها. دخلت الإنجليزيّة من العربيّة أرينبة أو شجرة الأرنب، مرّ بي في المراجع الإنجليزية أيضًا أنها تعرف بزهرة الربيع العربيّة

 


خلال بحثي عنها صادفت زهرة أخرى من الفصيلة الحمحميّة (Arnebia echioides) وورد في المراجع نفسها أنها تسمى زهرة النبي -محمد عليه الصلاة والسلام-، وهي مشابهة كثيرًا للفنون غير أنها عندما تتفتّح، تتفتّح بنقطة بنيّة لكل بتلة من بتلاتها الخمس، النقطة التي تتلاشى تدريجيًا حتى تختفي في يوم تفتّحها الثالث. تعزو المراجع التسمية إلى الثقافة الإسلامية التي تعتبر هذه النقاط الخمسة بصمات النبي عليه السلام عندما لمس النبتة، ولم أجد مثل هذا عندما بحثت بالعربيّة. ربّما أنها تسمية وحكاية من الأقطار الإسلامية الأخرى. الفنون وأذن الفأر (زهرة لا تنسني) تنتميان لنفس الفصيلة. 

 

 

 

البَروَق (Asphodelus)، الشيخة النهريّة (Senecio flavus)، التّربة (Silene villosa)، عين البقر(Pallenis hierochuntica):

 

التّربة.



أحدث ما تعرّفت عليه من الزهور البريّة البروَق وعين البقر التي لم أر وجه الشبه بينها وبين البقرة، والتربة البيضاء التي حيّرتني، كأنها زهرتان أو زهرة من طبقتان واحدة صغيرة وأخرى كبيرة، والشيخة النهريّة التي ظننتها في البدء هندباء بسبب إحدى زهراتها المليئة بالزغب، تشبه الهندباء حينما تتحوّل زهرتها إلى كرة بذور محاطة بالزغب لتطير بعد ذلك في الهواء، هذا الزغب سبب تسميتها باللاتينية لأنها تشبه شعث الشعر وبياضه في الشيخوخة. بالمناسبة، عندما كنّا نجهل ماهيّة الشيء البيض الشعري الصغير الذي يطير في الهواء كنّا نسمّيه في بيتنا غزالًا، واستمرّينا في هذه التسمية حتى بعد المعرفة. وجدت في مرجع لأسماء النباتات المحليّة تابع لقسم النبات والأحياء الدقيقة في جامعة الملك سعود أن اسمها حمض البهايم. 

الشيخة النهريّة.



 

بروق قبل التفتّح.

أمّا البروق أو البروَقة -أحبّها مؤنثة- فهي أشدّ ما أسرني حديثًا. لها زهرة بيضاء رقيقة صغيرة من أجمل ما رأيت في الزهور، يتوسطها خط بني، غصنها دقيق للغاية حتى لا يكاد يُرى وكأنها متعلّقة في الهواء، منظومة على الساق بروعة لا تضاهى في تفتّحها وانغلاقها. هي في الفصحى كما هي في العاميّة، بروق أو بروقة، وأيضًا برواق. بعدما قرأت عن رمزيّتها عند العرب أحببتها أكثر.

 

«البَرْوَقُما يكْسُو الأَرض من أَوّل خُضْرة النبات، ... شجر ضعيف له ثمر حبٌّ أسود صغار، قال: أَخبرني أَعرابي قالالبَرْوَقُ نبت ضعيف رَيّانُ له خِطَرةٌ دِقاقٌ، في رُؤوسِها قَماعِيلُ صِغار مثل الحِمَّص، فيها حبّ أسود ولا يرعاها شيء ولا تؤكل وحدها لأَنها تُورِث التَّهَبُّجَ؛ وقال بعضهم: هي بقلة سَوْء تَنْبُت في أوّل البقل لها قَصبة مثل السِّياط وثمرة سَوْداء.»

 

زهرة الخمخم التي اختلطت عليّ مع البروَق المتفتّح.

الخطرة هي الأغصان والقماعيل هي البراعم. في الأمثال العربية يضرب به المثل في الشكر فيقال «أشكر من بروقة، وذلك أنه يَعِيشُ بأدْنى ندَّى يقع من السماء، وقيل: لأَنه يخضرّ إذا رأى السحاب.» وفي رواية عن المثل قيل إنه ينبت بالندى فقط، وقيل ينبت بالغيم دون مطر. يمثّل بها أيضًا على الضعف، فيقال «أضعف من بروقة» لأنها تهلك إذا أصابها المطر الغزير أو تذبل إذا اشتدت عليها حرارة الشمس. 

 

خلال بحثي من أجل كتابة هذه التدوينة صادفت فتاة في رواية «راجناروك» التي تمرّ بي لأول مرة، تشبه ما أنا عليه من ولع بمطاردة الأزهار البريّة وأسماءها، وأريد أن أقرأها على الفور، ولحسن الحظ توجد منها نسخة متاحة على الشبكة طبعًا لأنها من مشورات مؤسسة هنداوي. حسنًا، يجب أن أتوقف هنا، وإلا لن تنتهي هذه التدوينة. 

 

الخميس، 4 نوفمبر 2021

كنّاشة الأسبوع. -٦-

 

 

 

(٢٣)

«ماذا لو أغراك صوب البحر، 

يا سيّدي اللورد

أو إلى قمّة المنحدر الصخري المرعبة

تلك المعلّقة على قاعدتها في البحر

وهناك ينتحل شكلاً مخيفاً آخر،

قد يجرّدك من السيطرة على عقلك

ويسحبك قريباً من الجنون. 

فكّرْ في ذلك.

المكان وحده دون باعث آخر،

يضع في كلّ دماغ حوافز للانتحار

إذا هو نظر إلى مسافات بعيدة في البحر

وسمع هديره من الأسفل.»

- مقطع من مسرحيّة «هاملت، الفصل الأول - المشهد الرابع» يحاول فيه هوراشيو أن يثني هاملت عن اللحاق بالشبح، بترجمة صلاح نيازي، مقتبس من مقالته «دور المنظوريّة في تضخيم الرعب».

 

(٢٤)

 

كنت قد وقفت قبالة البحر لأول مرة قبل قراءتي لهذه المقالة بسنوات، ولمع في ذهني حينها شيء وحيد: كيف يقاوم الإنسان، خاصة إذا ما كان على مرتفع من البحر، القفز فيه؟ ليس لهذا علاقة بأي أفكار انتحاريّة، بدا لي كأن القفز هو السلوك الطبيعي في مواجهة البحر وشعرت لوهلة أنني أود ذلك. لم أعرف كيف بدأت هذه الأفكار في ذهني. لكنني انتبهت الآن وأنا أكتب هذه التدوينة أنني قرأت «هاملت» في وقت مبكّر قبل أن أعرف شكسبير حتى، وقبل أن يضطرني نشاط لمادة اللغة الإنجليزية في الصف الثالث المتوسط إلى قراءة نسخة مبسطّة ومحدّثة من المسرحيّة. صادفت المسرحيّة مترجمة خلال تصفحي لموقع «tipsclub» لتحميل الكتب، كنت أحمّل منه كتبًا عشوائية وأقرأها حينذاك. يبدو أن بداية الفكرة جاءت من هناك، من قراءتي الأولى لهاملت. لكن ليست تلك المرّة الأولى التي أشعر فيها أن الانغماس في خطرٍ ما هو رد الفعل العفوي الفوري، أعني في مواجهة البحر هذه المرة، فقبلها كلما فتحت نشّافة الغسيل ذات الفوّهة العلويّة شعرت برغبة شديدة في مد ذراعي داخلها، وهو عين ما حذّرتني أمي منه منذ بدأت غسيل ملابسي بنفسي في سن العاشرة وقالت لي أن ذراعي ستُكسر في النشافة إن فعلت، مع هذا فعلتها مرّة، لكن والنشافة بطيئة توشك على التوقف، مع ذلك التفّت الملابس عليها وضربت في الحافّة وآلمتني بشدّة. ما أزال حتى اليوم، كلما استخدمتها فتحتها قبل أن تكمل دورتها وتتوقف، وأنا أفكر في مدّ ذراعي ثانية، لكن بالطبع لم أعد أجرؤ بعد تلك المرة.

بحثت بعد زيارتي للبحر في الإنترنت عن المسألة، لكنني لم أجد شيئًا، ولم أعرف أنها ظاهرة قد دُرست لمرتين وحسب وتدعى «ظاهرة الأماكن المرتفعة - HPP» -المرة الأولى في ٢٠١١ والثانية في ٢٠٢٠، أتطرّق للدراستين في فقرة (٢٦) من هذه التدوينة -، أو ربّما أن مهارتي في البحث حينها قصرت عن منحي أي نتيجة. لكنها عادت إلى ذهني هذه الأيام حين بحثت عن موضوع يخص التعامل مع بعض مواقف الطريق، فمرّ بي تحذير: لا تحدّق في أي جسم على الطريق، ستقود باتّجاه ما تنظر إليه، ولأنني خبرت هذا مرّة أو اثنتين، أثار التحذير اهتمامي فتركت ما بدأت البحث عنه وتحوّل الأمر إلى البحث عن هذا التحذير والظاهرة المرتبطة به.

 


(٢٥)


يطلق مصطلح «fixation Target» في الإنجليزيّة على ظاهرة الانهماك في التركيز على جسم -هدف- إما لإصابته أو لتجنّبه إلى حدٍ ينتج عنه الاصطدام بهذا الهدف نفسه، وراحت تعني في الثقافة المتداولة انكباب الإنسان على ما يودّ اجتنابه. بدأت ملاحظة هذه الظاهرة في الحرب العالمية الأولى، حيث اصطدم طيارون حربيّون بالأهداف بدلًا من قصفها والتحليق بعيدًا عنها. ينتج هذا بسبب التركيز الشديد على الهدف مما يحجب الوعي بالمعطيات الأخرى ومعالجتها. 

تنطبق هه الظاهرة على قائدي المركبات في حال السرعة، خاصةً في المواقف الخطرة حين يظهر فجأة جسم متحرّك باتجاههم على الطريق، أكان مركبة أخرى أو حيوان، أو حتى عند انتباههم المفاجئ للمنحدرات، فيهلع قائد المركبة، ويحدّق في الخطر بتركيز متزايد حتى ينكبّ عليه ثم … طخ! 

لا يحدث هذا عند الهلع وحسب، بل حين ينتبه القائد أيضًا إلى جسم يلفت انتباهه، كحادث وقع أمامه على الطريق -حينها من المحتمل أن ينضمّ إليه ما لم يحاذر!-، وكالسيّارات التي تقف على كتف الطريق وتثير فضوله ثم لا يحوّل انتباهه عنها، فيصطدم بها. لذا نجد نصيحة متكرّرة لقائدي المركبات: لا تقف على كتف الطريق إلا مضطرًا، لمشكلة تمنعك من مواصلة القيادة، ارتد حزام الأمان إن بقيت في السيّارة، وإن أمكن أن تترجّل منها فقف بعيدًا عنها في مكان لا يخفيك، إذ لأنك لا تشكل خطرًا على السيّارات ولا تستدعي انتباهًا فمن غير المرجح أن تكون الجسم الذي يوقع القائد في الفخ. لا تقف أمامها ولا خلفها ولا بجانبها بمسافة تسمح بتحقق ضرر عليك إذا ما اصطدم بها سائق تحت تأثير «التركيز على الهدف». تتكرّر الظاهرة بدرجة أعلى لدى سائقي الدرّاجات، إذ يتحكم الجسد بأكمله في حركة الدراجة، فتتجه بهم حيث يحدّقون. مرّ بي أن أحد أولى المبادئ التي يعلّم عليها سائق الدراجة: انظر حيث تريد الذهاب. 


شرين عبد الحليم.


ليس لردة الفعل هذه علاقة بالكفاءة، ولا بالذكاء، ولا التمكّن، ولا الخبرة، فهي تصدر عن ممارسين أكفاء ذوي خبرة في لحظات ما من حياتهم، تعتمد نجاة المرء منها على خطورة الموقف، لكنها قد تكون قاتلة. الحديث عن هذه الظاهرة من الخارج يبدو سهلًا: لا تحدّق في الخطر وامض بعيدًا، لكن معايشتها أمر آخر. تُعزى هذه الظاهرة إلى استجابة «الكر والفر - Fight or flight » الغريزيّة لدى الإنسان، فهو إذا ما حدّق به الخطر المميت إما يقاتل أو يهرب -أو يتجمّد مكانه-، لذا في مثل هذا الوضع، يجد الإنسان الميّال إلى استجابة القتال نفسه مدفوعًا إلى ما يهدّده، وإذ يستلزم القتال أن يتثبّت من الهدف فهو لا يغادره بعينيه، سيثمر هذا ربّما في مواجهات لا بد من القتال البدني فيها، لكن مع المركبات؟ أبدًا، بل عليه بالطبع أن يتصرّف بذكاء ويتدرّب قليلًا على استجابة الهرب قبل أن يتعرّض لمثل هذه المواقف ويتصرف وفق ما تمليه فطرته المهلكة. 

 


(٢٦)

درس علماء نفسيّون من جامعة فلوريدا الحالة التي تصيب الإنسان حين يقف على مرتفع ويرغب في الإلقاء بنفسه لأول مرة في عام ٢٠١١ وأسموها «ظاهرة الأماكن المرتفعة - High Place Phenomenon». توصّلوا في هذه الدراسة إلى أنها ظاهرة لا يمكن أن توصف بالنادرة، إذ شعرت نصف العينة تقريبًا بهذا الشعور، كما لا تدل بالضرورة على ميول انتحاريّة كما يُعتقد -أكدت هذه النتيجة هذه الدراسة التي عقدت في ٢٠٢٠-، بل هي على العكس تنجم عن تأويل إشارة طلب الأمان بالهرب من الخطر تأويلًا خاطئًا. قد تكون طريقة الدماغ المعقّدة التي يعبر بها عن رغبته في الحياة. وخلصوا إلى أن الظاهرة منتشرة عند ذوي الميول الانتحارية وغيرهم على السواء. تقول الباحثة أبريل سميث، وهي من القائمين بهذه الدراسة، أن هذه الظاهرة تحدث بسبب خلل في التواصل يصيب أدمغتنا، فبعض أنظمة الدماغ تعالج المعلومات بسرعة تفوق غيرها وخارج مدى وعينا. لذا ربّما حين نقف على مرتفع، ترسل أدمغتنا إشارة إنذار - كي نحذر، فيقودنا هذا إلى التراجع خطوة إلى الوراء أو الانتباه لما يحيط بنا. عندها نسيئ قراءة ما حدث، نجد أنفسنا في مأمن فنتساءل لم تراجعنا خطوة ولم نكن نوشك على السقوط؟ لم الردع بينما لا يوجد ما يدعونا للخوف؟ وهكذا يقول المرء لا بد أنني هممت بالقفز! لا شيء أكيد في دراسة هذه الظاهرة غير تأكيد شيوعها، أما تبقى فمحاولات لتفسيرها. 

ولأن رغبة الانغماس في المهالك لا تقتصر على القفز من المرتفعات، فهي حاضرة مع كل خطر يحدق بالإنسان، أكان وقوفه على جرف أو أمام سكة قطار قريب أو عند الاقتراب من النار وغيرها من الأمور التي تهدّد سلامته -أو في حالتي: نشّافة الملابس، يبدو أنني خفت كثيرًا نتيجة تحذيرات أمي-، فقد عُرفت أيضًا باسم آخر، شاعري وجذّاب: «نداء الفراغ». 

 


(٢٧)

تنطلق الظاهرتان ربّما من غريزة واحدة، غريزة البقاء التي تقودنا إلى ميكانيكيّة الدفاع البدائيّة التي ورثناها عن أسلافنا «الكرّ والفر»، فاستجابة الهرب التي يساء تأويلها عند الشعور بنداء الفراغ، وسوء تقدير الاستجابة الملائمة حين تستيقظ فينا هذه الغريزة هو الذي يدفع قائد المركبة أو الدرّاجة إلى الانكباب على الخطر عند مواجهة أجسام تتجه إلينا في الطرقات. أفكر الآن أن من غير الممكن تفسير انكباب الفراشات على النار في ضوء سوء تقدير الاستجابة الذي يصيبنا، لكن ما دمنا قد أوّلنا سلوك الفراشات ولعًا بالنور، فما الذي يمنعنا من أن نعزوه لهذا أيضًا؟ :p

(يخطر لي الآن البحث عن سلوك الفراشات الذي يقودها إلى نهاية مؤلمة، لكن كفى فضولًا لهذا اليوم، كما لا أود أن تفسد المعرفة فكرة شاعريّة أحبها عن احتراق الفراشات.)

 

الجمعة، 27 أغسطس 2021

حكايات اسمي أو التشبّث بأخطائي.



تُظهر توصيات الأمان في نافذة تعبئة كلمات السر التلقائيّة في هاتفي أن واحدة من ثلاث كلمات سر ثابتة أستخدمها لحساباتي قد ظهرت في تسريب بيانات حديث، مما يعرّض حساباتي لخطر الاختراق. لدي ثلاث كلمات، واحدة طبعًا للحسابات البنكيّة وحسابات المواقع الحكومية، ثانية لأي مواقع يلزمني فيها التسجيل، وثالثة لحسابات مواقع التواصل الاجتماعي. تختلف كل واحدة عن الأخريات جذريًا، الثانية منهن هي التي ظهرت في التسريب الذي يتحدّث عنه هاتفي، وهي أقدمهنّ.


كنت أكتب اسمي بالإنجليزيّة منذ المرحلة الابتدائية بهذه التهجئة: «Reeuf»، هكذا علّمتني أختي الكبرى التي أدين لها بالكثير. واصلت كتابته هكذا حتى صادفت معلّمة في المرحلة المتوسّطة قالت أنني أكتبه بشكلٍ خاطئ وعليّ أن أصححه، وأعطتني تهجئة بها ستّة أحرف فاعتمدتها -وهذه من المرات القليلة التي أسلّم فيها بما يقال لي دون تأكد من صحّته- حتى بداية دراستي الجامعيّة في قسم اللغة الإنجليزيّة. بعد اختبار الشهر الأول، فيما يعرض أحد الأساتذة الأفاضل كراريس الإجابة على الشاشة ويعلّق إما على الخطوط أو الأجوبة، وضع كرّاسي وقال أنني لو اجتهدت قليلًا لما تركت حرفًا صائتًا يعتب عليّ، بالكاد أفلتت بعض الحروف الأخرى منّي أيضًا كي لا أضمها لتهجئة اسمي، وربما لو بذلت جهدًا لوجدت مكانًا للصائتين المتبقيين «a,i». كتبه على الشاشة كما يظهر على كرّاسي «Reyuof»، ثم شطب منه «y,o» وقال هكذا يكون اسمكِ صحيحًا. ربّما لو لم يعقّب بثناء على تنظيم كرّاسي وترتيب خطّي وبراعة أجوبتي -رغم أنني لم أحصل على الدرجة الكاملة- لما استطعت أن أذكر هذه الحادثة كلما واتت الفرصة وأنا أضحك. فصارت تهجئة اسمي «Reuf» وهي مطابقة للتهجئة الفرنسية لمفردة شقيق بلهجة «Verlan» التي تُقلب فيها مقاطع المفردة وتجرى عليها التعديلات اللازمة «/فغِغ/ reuf : frère /غِف/». اللهجة التي تعود بداياتها إلى القرن التاسع عشر، بدأت بمثابة لغة مشفّرة بين المجرمين، وساهم المهاجرون في شيوعها خلال العقود الأخيرة بعد الحرب العالميّة الثانية. 


Amit Das.
 وبالطبع إذ كنت قبل هذا أظن التهجئة السداسيّة صحيحة، استخدمتها في كلمات السر بجانب رقم تاريخ يعنيني لكنني صرت أكتبه بخطأ طباعي. في أول مرة أردت فيها أن أكتبه ضمن كلمة سرّ قبل سنوات من تصحيح التهجئة وردّها إلى تهجئة مماثلة لتهجئة أختي بفارق حرف، زلّ إصبعي عند الرقم الثاني لرقم بجانب الذي نويته، وإذ انتبهت للخطأ قبل أن أعتمدها فقد قررت أن أبقيه كما هو وليكن ذلك الخطأ هو القسم الثابت في كلمات السر. وهكذا صارت كلمة السر بخطئين، في الرقم والتهجئة، ورغم تعمّدي لأحدهما لم يخطر لي حينها أنني أتشبّث بتذكّر أخطائي، فلم يكن لديّ حينها أخطاء تستحق أن ألقي لها بالًا.



بعد أن راكمتُ أخطاءً تشغل حيّزًا من ذاكرتي ألفيت نفسي أسحبها إلى الهيمنة على ذهني من وقت لآخر. ثم أردت مرآة صغيرة في أحد الأيام، ذات أرجل، لها إطار خشبي منحوت بتفاصيل جميلة. وإذ لم أعثر على بغيتي، أخذت أقرب مرآة مشابهة، لم تكن مقنعة، لكن خلت أنني سأكتفي بها وسأكف عن التفكير بمرآة أحلامي. لم تعجبني، وحين غادرت مسكني المؤقت الذي ابتعتها وأنا فيه لم أتركها مع الأثاث الذي تركته رغم سهولة هذا القرار، بل حزمتها في حقيبتي لأحملها معي مثل أخطائي. دسستها وسط الملابس كي لا يسهل كسرها رغم أنني أرجو أن يقذف مسؤول الأمتعة في المطار بها فتتكسّر، ولا بأس حينها لو مزّقت شظاياها ملابسي، إذ كنت أكره تلك الملابس على كل حال. وهكذا لم يحدث شيء واحد ممّا أردته، بدءًا من العثور على المرآة التي أريد مرورًا بتحطّم هذه الأخرى في الحقيبة وانتهاءً باعجاب أختي الصغرى بها علّها تأخذها عنّي لحجرتها، فظلت معي. سمحت لصغار العائلة أن يستعملوها سبورة، علّهم يتلفونها على نحو لم يخطر ببالي، ثم تركتها مهملة لفترة في المستودع، ربما تتهشم تحت شيء ثقيل يسقط صدفة عليها، لكنها عادت ماثلةً أمامي، أطالعها من فوق شاشة الحاسوب على الخزانة المقابلة، أو تتعثّر يدي بها بحثًا عن شيء في تلك الخزانة. تذكّرني يوميًا بما كان عليّ تجنّبه: شراءها من الأساس -أتؤنبني على عدم ردّها فورًا إلى المحل؟-، ثم جرّها معي حيث لا ينبغي أن تحضر: تمامًا مثل أخطائي التي لا أغفرها، ولا يهم ما حدث بعد ذلك.


اسمي رِيُوف، وأحبّ أن أنادى باسمي الثنائي: ريوف خالد. تخبرني أمي أنها كتبته داخل دولابٍ عندها حين خطر لها في أشهر حملها الأولى كي لا يغيب عنها بعد ذلك. ريوف بكسر الراء، ولا يعني بأي شكلٍ كان جمع «ريف» لأن جمعها «رُيوف» بضمّ الراء، ولا يعجبني شيوع هذه المعلومة الخاطئة عن معنى اسم ريوف. جذور اسمي بدويّة، فهو صيغة مبالغة على وزن «فعول» من الفعل «راف: مخفّفة عن رأف»، فيقال رافت وارتافت وترتاف وتروف فلانة؛ وراف وارتاف ويرتاف ويروف فلان، والصفة منها «ريّفة، تجمع على ريّْفَات» للمؤنث و«ريّف» للمذكر، وصيغة المبالغة للمؤنث والمذكر: رِيُوف. أحب في اسمي جذره ومعناه، أليست الرأفة أشد من الرحمة، بل هي أرقّ منها؟ فكيف يحملون اسمي على مفردٍ لم يكن جمعه ومعنى ليس بمعناه؟


حمدًا لله أن اسمي لم يكتب خطأ عند الأحوال المدنيّة، فلم يكن «إريوف أو أريوف» مثلًا رغم أنني لا أمانعهما سمعًا. لكن حين صدرت هويّتي وعلى ظهرها البيانات باللغة الإنجليزيّة، لم يعجبني كيف ظهر اسمي، لكنني تجاهلته لفترة حتى صرت مضطرة لرؤيته في أماكن عديدة فاتصلت ذات يوم بالأحوال المدنيّة لأنني لم أجد ضمن خدمات المواعيد تصحيح الاسم باللغة الإنجليزيّة -قبل أن تتاح الخدمة من «أبشر»، وتتطلّب جواز سفر-، فقيل لي أن أحجز موعد تجديد بطاقة، وحين أحضر للموعد أطلب التغيير، وهكذا فعلت. حين حضرت موعدي وقلت للموظّفة أنني أريد تصحيح اسمي، قالت فورًا: «تغيّرين اسمك؟ اسمك عادي، ما فيه شيء. اتركيه.» فصحّحت لها أنني أريد تصحيح اسمي باللغة الإنجليزيّة، فقالت أنها لا تدري إن كان هذا ممكنًا، لم تتولى خدمة مشابهة من قبل، أكّدت لها تواصلي مع خدمة العملاء وما جرى في المحادثة، وأنهم قالوا بوسعي طلب تصحيحه دون أي وثيقة. لكن الموظفة أصرّت أنني لا أستطيع، فما يدريها لو أنني سأكتب اسمًا خاطئًا، وكيف لي أن أحكم على خطأ «Rayuf»، فقلت أن تخصّصي لغة إنجليزيّة لعل قولي هذا يقنعها لكنه لم يفعل، فتذكرت أن وثيقة البكالوريوس تحمل اسمي كما أريد أن يكون وأخبرتها! طلبت مني أن احضرها لتعتمد عليها، وكنت أنا من أمليت تهجئة اسمي على الوثيقة في موقع الجامعة. أحضرتها وأكملت الطلب، وعدت لاستلامها بعد أسبوعين. طيلة الإجراءات سمعت «الاسم اللاتيني» أكثر من مرة، لا أذكر إن كانت المستندات التي عبأتها أيضًا تذكر هذا أم أنها تنص على «الاسم بالأحرف اللاتينيّة»، والفرق بينهما شاسع. كلما قيل لي: تغيّرين الاسم اللاتيني؟ قلت نعم الاسم بالإنجليزي، لم أرغب في جدال فرعي عن ما يعنيه الاسم اللاتيني والاسم بالأحرف اللاتينيّة أو بالإنجليزيّة، لكنني في الوقت نفسه لم أستطع أن أصل في المجاراة إلى قول: تعديل اسمي اللاتيني، فطيلة الوقت يبزغ في رأسي: سيكون اسمكِ اللاتيني ريوفا «Reufa» جريًا على نظام التّسمية في اللاتينيّة بإضافة اللاحقة «a» إلى آخر الاسم المؤنث -وَاللاحقة «us» لأسماء الذكور-، ولو أنكِ على التهجئة القديمة لصار فيه أربعًا من الصوائت الخمس «Reyuofa»!


لم يجد أطفال العائلة مشكلةً مع اسمي، فهو «أوف» فـ «أيّوف»، ثم ما إن ينطقوا الراء حتى يجري كاملًا على ألسنتهم، كما لم يرغبوا في مشاكستي به باستثناء ابن أخي الصغير «اللكيع». نسيه مرة فقال: هنوف الصغيرونة، وهنوف أختي التي تكبرني، وإذ رأى أن نسيانه ونعتي بالصغيرة قد أزعجني واصل، فصرت الصغيرونة وحسب. ثم الصغيرونة التي ترتدي الأخضر، والصغيرونة «اللي غرفتها هناك.»، والصغيرونة «اللي عندها فيل.»، ثم بعد أن ابتعت حاسوبًا جديدًا وأخرجته من صندوقه بحضوره صرت «اللي كمبيوترها جديد.» وتنحّت الصغيرونة عن أسمائي الوصفيّة التالية، كل هذا دون أن يذكر اسمي مرةً واحدة، ثم انتهى أخيرًا إلى «اللي تقول دوّر الريموت.» وكأن تأليفه لكل هذه الجمل أسهل عليه من حفظ اسمي. حدّثت والدته مرة عن الأمر فقالت أنه يعرف اسمي ويقوله صحيحًا حين يعود إليها ليخبرها ماذا فعل في يومه، وأن كل هذا للمشاكسة وحسب. في المرة التالية سأل عنّي: «وين اللي تقول دوّر الريموت؟» فقال له أخي، عمّه: «صدق ما تعرف اسمها؟» -لدى هذا الولد مشكلة مع الاتهمام بقلّة المعرفة- فانبرى قائلًا: «إلا أعرف. اسمها ريوف.» وهكذا كفّ عن توليفات الأسماء التي راقت لي. 


غيّرت كلمة السرّ الثانية إلى كلمة مكوّنة من تاريخ صحيح، واسم مستعار لطالما أحببت استعارته وأحببت الشخصيّة التي كنتها يوم استعرته، ربّما تذكارًا لبنتٍ حوى ذهنها ذات مرة «أفكارًا بيضاء» و«ذكريات خضراء». 

الخميس، 3 سبتمبر 2020

مقتطف من رسائل توفه يانسون.

ترجمت هذه المقتطفات من رسائل توفه يانسون، المختارات الإنجليزيّة المنشورة عام ٢٠١٤ عن University of Minnesota Press


«شكرًا لرسالتك. لقد أشعرتني بالسعادة والخفّة. كأنّك قد أخذتني بين ذراعيك. ... أتساءل إذا ما كنت تظن أن زواجنا فكرة سديدة. لن يغيّر زواجنا من حياتنا شيئًا. لا أظن أنه سيغيّر، لكن إن لم ترغب الزواج، بوسعنا الحديث عن شيء آخر حين تعود. ثمة العديد لنتحدث عنه، أليس كذلك.


... عد إلى الوطن؛ فخلال بضع أسابيع ستطول النهارات مجددًا. ولترى أيضًا إنسان مولع بك، يدعى أنا.»


من توفه يانسون إلى حبيبها أتوس في نهاية عام ١٩٤٧.

————————


بعدها أرسلت توفه إلى صديقتها إيفا كونيكوف تخبرها بعرضها:


«لقد قمت بأمر (وككل شيء غيره) لا أدري أهو تصرف شجاع أم العكس، جبن خالص. كتبت لأتوس وسألته إن كان يرى زواجنا من بعضنا فكرة سديدة. إن لم تستهوه الفكرة، فبوسعنا الحديث عن أمورٍ أخرى ببساطة حين يعود للوطن. ... حين أرسلتها، حدث أمر جيّد. المحادثة التي دارت في رأسي طيلة الوقت منذ بواكر الربيع مع فيفيكا [حبيبتها السابقة] قد توقّفت. ذاك الاجترار المريع لكل ما قلناه، وما أمكن أن نقوله، وما وجب أن نقوله، وما لم نقله. ما كتمته ولكته، ليلًا ونهارًا. ... أظنني آمل أن يرغب أتوس الزواج منّي. بمقدرونا البقاء في بيتين منفصلين كما نحن الآن، دون أن نغيّر في حياتنا شيئًا على الإطلاق. ... لكنني سأشعر على الأرجح بأنني أهدأ وأقدر على العمل. سأكف عن التوق لأكون في ضفة السّين اليسرى[جنوب باريس، إشارة لمكان فيفيكا]


ثم أرسلت لها بعد أن تلقّت رد أتوس هذه الرسالة مطلع عام ١٩٤٨:


«تسرّني القدرة على إخباركِ بأنني وأتوس سنتزوج خلال هذا الربيع. لقد أجاب عرضي الزواج عليه بطريقته. «توفه، أصحيح أننا لسنا متزوّجان حتى الآن؟ ظننتنا زوجان، لا بد أننا نسينا الزواج بشكلٍ ما. لكنه اجراء شكلي فحسب، بالطبع. لا بد أن ننجزه دون تأخير. سيبدأ الناس في التوهّم بأننا غير منسجمين.»


قهقهت على هذه الرسالة لوقت طويل وشعرت بالخفة والسرور على نحو فاجأني. بات كل شيء في منتهى البساطة بغتة، ولم يعد ثمة داعٍ للتفكير الذي يغمّ.

كنت أتساءل في رسالة سابقة إذا ما كنت فريدة الشجاعة أو فريدة الجبن. واثقة من أنني الأخيرة. لو أنني مدركة تمامًا حين عرضت الزواج بأنه من أحببت حقًا، فسيكون الأمر في منتهى الشجاعة. لكنني لم أعرف حينها، أردت أن أحمي نفسي وحسب، بشكلٍ ما. لكن هذا لا يهم. حدث ما حدث ليكون الصواب. لا بد من أنه الصواب، إذ أسعدني كثيرًا وما زلت. لا يجدر بي أن أخبر أحدًا حتى نتزوّج فعليًا، إن حدث هذا.

كما يقول، الزواج مجرّد شكليّات، إلا أن له دلالة رمزيّة بالنسبة لي تفوق ما يتخيّل.»

————————

جهّزت توفه -دون مشاركة أتوس- لزفافها الذي لم يحن قط، ثم تفهّمت أتوس الذي أخبرها لاحقًا أن لا مكان لغير نفسه في حياته، لا عواطف ولا أفراد، فانسحبت من حياته ومن عاطفتها تجاهه وأبقت نفسها على مسافة صداقة منه وهي التي قالت، معه وعنه وحده من بين الذين أحبتهم:

«حتّى الآن كنت بمفردي، أولي عناية كبيرة بحدود تضمن لي السلامة مع الآخرين. لكنني لم أعد أهتم بهذه الحدود. وحده الذي أريده وسأريده دائمًا دون سواه. ... لطالما بدت لي فكرة علاقات غراميّة محتملة قادمة معقولة، ... غير أن أمنيتي المتّقدة الآن ألّا أحظى بعلاقة غراميّة عداه.» 



بعد ثلاث سنوات حاول أتوس أن يستعيد توفه بطرق مسألة الزواج، إلا أنها حينها كانت قد كفّت عن الرغبة به، وعن الرغبة بالزواج إطلاقًا.