الاثنين، 13 مايو 2013

حول الذاكرة.



كانت النيّة أن أكتب حول إحدى تجارب الطفولة التي باتت مقياسًا، أو ربّما نظامًا أسير عليه. كل ما أصنعه الآن وكل قرار أتخذّه، كل التدابير مبنيّة على ثلاثة أسس تعلمتها في طفولتي، ومهما تفرّعت الآن في التجارب، الأصل ثلاثة؛ حكاية دقّاق العجم، ومبدأ وجع ساعة ولا وجع كل ساعة، ومبدأ كل طراق بتعلومة. بضع دقائق من البحث حول أمر الذاكرة قادها إلى أن تكون حول وثائقي تناول ذاكرة الإنسان.


الصورة أعلاه من مشروع Dear Photograph على تمبلر والذي بدأ به عام 2011 الشاب تيلور جونز، حيث وجد صورة قديمة لأخيه في مطبخ البيت، والمطبخ لا يزال كما هو منذ التقاط الصورة. امسك الشاب بالصورة وصوّرها ضمن المكان الذي كانت قد التقطت فيه، أنشأ مدونة تمبلر ووضعها مع صور أخرى التقطها بنفس الوضعيّة فيه. طرح الفكرة ليشاركه الناس بصورهم، فشارك المئات بصورهم وتخطّت الزياراتُ المليون زيارة خلال ستة أسابيع. والآن طُبع من هذه الصور كتاب يحمل اسم المدوّنة. في وصف المدونة : 'التقط صورة لصورة، من الماضي، في الحاضر'. منذ أن رأيت صور المشروع وقبل أن أعرف به، خطر لي أن الأمر تضمين الماضي في الحاضر، وهذا غالبًا ما تفعله ذاكرتنا بالتجارب والخبرات والذكريات، عملية تضمين وربط لا تنتهي.


'ذكرياتك تشكّل هويّتك'
كانت هذه العبارة التي توقّفت عندها من ضمن مقدمة الوثائقي الجميل "كيف تعمل ذاكرتك؟" الذي قدّمته بي بي سي عبر برنامج Horizon  عام 2008 م. –قديم بعض الشيء لكن به معلومات وتجارب مثيرة-. بدأ الفيلم بتجربة تبيّن بداية عمل الذاكرة وتسجيل الذكريات. قام باحث بأخذ مجموعة من الأطفال ووضع أمامهم المرآة، الأطفال الذين لم يتعرّفوا على أنفسهم من خلال المرآة لم يتّضح عليهم أي استجابة، تملّصوا من أمام المرآة، عدا طفلين تعرّفا على نفسيهما في المرآة. الخطوة الثانية من التجربة وضعوا مادة ملوّنة على أنوف الأطفال ثم وضعوا أمامهم مرآة مجدّدًا، لم يبادر الأطفال بأي ردة فعل، لا تركيز في الشكل ولا تحسس أحدهم أنفه، عدا الطفلين الذين تعرّفا على نفسيهما في المرآة، صدرت منهم ردّات فعل من ضحك وتركيز في المرآة وتحسّس للأنف. في مرحلة لاحقة، أُدخل الأطفال إلى غرفة جديدة عليهم، لم يدخلوها من قبل، وفي أحد الأدراج وضعت دمية أسد وأُخبر الأطفال بمكانها. بعد أسبوعين جاؤوا بالأطفال إلى الغرفة وسألوهم أن يدّلوا على مكان الأسد، لم يفلح الأطفال عدا الطفلين الذين اجتازا تجربة التعرّف على النفس. وعليه، فالإنسان لا يبدأ بتكوين ذاكرة شخصيّة إلا بعد أن يتكوّن لديه الحس بالنفس.

  
تناول الوثائقي أيضًا الذاكرة من ناحيتين، حالة الفتاة جنيفييف المصابة بمرض "اضطراب ما بعد الصدمة، أو اضطراب الكرب التالي للرضخ" والشاب جون فوربس الذي وُلد خديجًا مع توأمه الذي مات بعد ثلاثة أيّام من الولادة، لم يتكون في دماغه الجزء الخاص بالذاكرة "الحصين - Hippocampus". وتوجد رواية أخرى تقول بأن جون تعرض لنقص الأكسجين عن الدماغ مما أتلف الحصين. أثناء تناول حالة جون، ظهر جون يتحدث، خطر لي سؤال –خطر لأختي أيضًا حين أخبرتها عن حالة جون- كيف يتحدّث جون؟ كيف لم ينسَ اللغة والكلمات ما دام الجزء الخاص بذاكرته معطوبًا؟ وهو الذي لا يتذكر أي شيء، حتى روتينه اليومي لا يقوم به من نفسه إنما يُخبر بما عليه أن يفعل؟
John Forbes

من دراستي سابقًا لاكتساب اللغة عند الإنسان، عرفت أن هنالك أجزاء في الدماغ متخصّصة في مهارات اكتساب اللغة ثم التحدث بها بعد ذلك، لا تندرج هذه الأجزاء ضمن الحصين المسؤول عن الذاكرة، في حالة اللغة الأم. أما في حالة اللغات الأجنبيّة فلستُ متأكدة إن كان للحصين دور في تعلّمها أم لا. الأجزاء المسؤولة عن اكتساب اللغة لدى الإنسان أربعة؛ منطقة بروكا، منطقة ويرنكي، القشرة الحركيّة، الحزمة المقوّسة. بروكا جرّاح فرنسي وويرنكي طبيب ألماني توصّلا إلى وظائف هذين الجزئين في اللغة وعليه نُسبت إليهم الأسماء. في ستينيات القرن التاسع عشر أصدر بول بروكا تقريرًا أشار فيه إلى أن التلف في الجزء المُشار إليه بالرقم 1 في الشكل أدناه يؤدي إلى صعوبات في التحدث وعليه هذا الجزء مسؤول عن إنتاج الكلام. في سبعينيات القرن ذاته أصدر الطبيب الألماني كارل ويرنيك تقريرًا أشار فيه إلى أن تلفًا في الجزء المشار إليه بالرقم 2 في الشكل أدناه موجود لدى المرضى الذين يعانون من صعوبة في فهم الكلام، وعليه هذا الجزء مسؤول عن الاستيعاب. القشرة الحركيّة، المُشار إليها بالرقم 3 في الشكل أدناه، مسؤولة عامةً عن تحريك العضلات في الجسم، والجزء منها الذي بجانب منطقة بروكا هو الخاص بتحريك عضلات الوجه والفك واللسان ...إلخ الأجزاء التي تنتج الأصوات. الحزمة المقوّسة –وهي من اكتشاف ويرنكي- مُشار إليها في الشكل أدناه بالرقم 4 تشكّل اتصالا بين منطقتي بروكا وويرنكي. 



الآلية بشكل مبسّط: تُسمع الكلمة، يتم استيعابها عن طريق منطقة ويرنكي، عبر الحزمة المقوّسة يتم إرسال إشارة لمنطقة بروكا حيث يتم الاستعداد لإصدار الكلمة، ترسل بعد ذلك إشارة إلى القشرة الحركيّة لتصدرها لفظيًا. تتناول اللسانيّات العصبية الآليات في الدماغ البشري التي تكتسب وتنتج اللغة وكل ما يتعلّق باللغة والدماغ بشكل مفصل لمن يريد أن يستزيد حول الموضوع. وعليه فجون فوربس لا علاقة تربط ما حصل للحصين عنده باللغة. جون كما لا يُمكنه تذكر شيء من الماضي، لا يمكنه التخطيط للمستقبل، ولا يملك خيالًا. لأن الحصين هو المسؤول عن كل هذه الوظائف. حول اكتساب اللغة يوجد وثائقي أيضًا من بي بي سي تناول تجربة اكتساب الأطفال للغة من خلال باحث حوّل منزله إلى مختبر سجل كل لفظ يصدر من طفله على مر ثلاث سنوات، وتناول أيضًا تجربة رجل يعرف لغات متعدّدة وأمور أخرى. رأيته منذ مدة طويلة ونسيت أغلب التفاصيل لكن أذكر عنه أنه جيّد.   Language Acquisition

جنيفييف، تستحضر ذكريات الاعتداء الذي تعرّضت له منذ تسع سنوات والمشاعر المؤلمة التي رافقته، كما لو أنها طازجة بطعم اليوم الأول، وهذا ما يسمى باضطراب ما بعد الصدمة، حيث لا ينفكّ الإنسان من الشعور بثقل الوجع دون أن يخبو أو يتضاءل. حين استحضار الذكريات تُستحضر من ناحيتين، الحدث، والشعور المصاحب له. وفي حالة جنيفييف الشعور يحتفظ بتركيزه ويفرض نفسه في كل مرة تعود لها ذكريات الحادث. في الوثائقي تمت تجربة عقار أخذته جنيفييف ثم خضعت لاختبار يقيس مدى تأثرها أثناء استحضار الحادث مجدّدًا، وكانت النتيجة أن العقار خفف من تركيز وثقل المشاعر التي تلازمها أثناء ذلك. لا يمسح العقار الذكريات المؤلمة بالطبع، لكنه يخفف من الشعور بالألم حين تخطر بالبال. عن التجربةأكثر وآلية العمل يتحدّث بروفيسور برونِت الذي قام عليها، وسؤال لمجموعة من الناس حول إمكانية تعاطيهم العقار من عدمها.

يوجد تجربة طريفة –خارج الوثائقي- حول إمكانية زرع ذكرى خاطئة في ذاكرة الإنسان. صمّمه بروفيسور من هارفرد ليبيّن كيف أن الذاكرة من الممكن أن تخدع الإنسان. أجريته ولم تكن ذاكرتي خصبة بما يكفي لتتم عملية الزراعة، لم تنجح الخدعة : ) ذاكرتي حازمة حيال مثل هذه الأمور. كما توجد تجربة أخرى تتعلق بالذكريات مع البيتلز، أغنياتهم وحفلاتهم وألبوماتهم ... إلخ. لهذه التجربة موقع لكن به مشكلة للأسف لم تمكّنني من تجاوز الصفحة الرئيسيّة. يقوم على هذه التجربة أساتذة من جامعة ليدز بالمشاركة مع الجمعية البريطانية للعلوم، حول تأثير الموسيقى على الذكريات.

تناول الوثائقي فيما تناوله بشكل مقتضب كيف تصنع الذكريات خبرة، مرض ألزهايمر وآلية عمل دماغ المصاب به وكيف يحدث له هذا. وتحوّلات تطرأ على الذاكرة مع التقدم في السن، تجربة مريض بألزهايمر وزوجته. وبالطبع فالمجال والأبحاث أوسع من أن أتناولها في هذه التدوينة.

اقتباسات من الوثائقي How does your memory work
'التجربة تصنع حياتك'
'الذاكرة تمنحك القدرة من أجل التخطيط'
'10% من الأشخاص يرغبون نسيان تجارب قد مرّوا بها'
'في سن الخامسة والعشرين تعمل الذاكرة بكامل طاقتها حيث تستعيد في الثانية 200 معلومة'
'من سن السابعة والعشرين تخبو ذاكرتك بالتدريج'
' في سن الأربعين تموت من خلايا الذاكرة 10000 خليّة يوميًا'
'في منتصف العمر، ينحدر مستوى الذاكرة'

·        المراجع:
·   How Does Your Memory Work - BBC Documentary Film
·        Wikipedia
The study of the language - George Yule