عُقدت هذه المقابلة عام 1988م. ونُشرت في مجلة «ذا پاريس ريڤيو» خريف عام 1990م. أود أن أُشير إلى أن كافة الحواشي من إضافة المترجمة. لتسهيل القراءة رفعتها هنا بصيغة بي دي إف.
مايا آنجلو، فن الأدب القصصي. اللقاء التاسع عشر بعد المائة.
أجرى اللقاء: جورج پلمپتون.
ترجمة: ريوف خالد.
أجرى اللقاء: جورج پلمپتون.
ترجمة: ريوف خالد.
عُقد هذا الحوار على مسرح معهد جمعية الشباب العبري في «أپر إيست سايد – منهاتن». حضره جمعٌ غفير، غالبيته من النساء، وقد شُغِلت المقاعد كافة، حقيقةً، إضافة إلى العديد من الواقفين في الخلف ... هذا برهانٌ على طاقة جذب مايا آنجلو. بالقرب من المنصّة، ثمة جماعة صغيرة من نساء سود يرتدين الأردية البيضاء لطبقة المسلمين السود. هيمن ظهور مايا آنجلو على الجلسة. أثار العديد من تعليقاتها تصفيقًا مُتّقِدًا، بخاصة تلك التي تعكس رؤاها في المشاكل العنصريّة، والحاجة للمواظبة، و«الشجاعة». إنها مؤدية استثنائية ولها حضور مسرحي طاغٍ. تبدو العديد من الأجوبة موجهة إلى الجمهور، بقدر ما هي موجهة للمحاور. ثم حين ختمت مايا آنجلو الأمسية بقراءة جهورية من أعمالها –كما أسلفت، لجمهورٍ منتشٍ- بدا هذا امتداد منطقي لترفيه مدبّر.
المحاور: لقد أخبرتني مرة أنّكِ تكتبين مستلقيةً على سرير مرتّب، ولديكِ قنّينة شرى، ومعجم، معجم روجيه للمترادفات، ومذكرات صفراء، ومنفضة، وإنجيل. ما هي وظيفة الإنجيل؟
آنــجـلـــو: لغة ترجمات وتأويلات الإنجيلين اليهودي والمسيحي كافةً؛ لغة موسيقيّة، باهرة تمامًا. أقرأ الإنجيل لنفسي، آخذ أي ترجمة، أي طبعة، وأقرأها بصوتٍ عالٍ؛ لأسمع اللغة وحسب، لأسمع الإيقاع، ولأذكّر نفسي كم جميلة هي اللغة الإنگليزيّة. رغم تمكّني من التمتمة بقرابة سبع أو ثمان لغات، إلا أن الإنگليزيّة تظل أجملها. إنها تفعل أي شيء.
المحاور: هل تقرئينه من أجل الإلهام لتلتقطي قلمكِ الخاص؟
آنــجـلـــو: من أجل النغم والمحتوى أيضًا. إنني أبذل مجهودًا في محاولة أن أكون مسيحيّة، وهذه قضيّة جادة. إنها مثل محاولة أن تكون يهوديًا جيدًا، مسلمًا جيدًا، بوذيًا جيّدًا، شنتويًا جيّدًا، زرادشتيًا جيّدًا، صديقًا جيّدًا، عاشقًا جيّدًا، أمًّا جيّدةً، رفيقًا جيّدًا، إنها قضيّة جادّة. ليست قضية تتيح لك أن تعتقد: «أوه! لقد أتممت الأمر. أنا أقوم بهذا طيلة اليوم، يا سلام!» الحقيقة أنك تقضي سحابة يومك في محاولة أن تنجح، أن تكون ما تريد أن تكونه. ثم في المساء، إذا كنت صادقًا ولديك القدر القليل من الشجاعة، ستنظر إلى نفسك وتقول: «همم، لقد فرّطت ستّ وثمانون مرّة». لا بأس، أحاول أن أكون مسيحيّة ويساعدني الإنجيل في تذكّر ما أنا بصدده.
المحاور: هل تنقلين هذا النغم إلى نثركِ؟ هل تعتقدين أن لنثرك رنّة خاصة قد يربطها أحد بإنجيل الملك جيمس؟
آنــجـلـــو: أريد أن أسمع ما تبدو عليه الإنگليزيّة، مثلما سمعتها إندا ست. ڤنسنت ميلاي. أريد أن أسمعها، لهذا أقرأ الإنجيل جهرًا، ليس لأقتفي الأثر، إنما لأذكّر نفسي ببهاء اللغة، ثم أحاول أن أكون متفرّدة بل وحتى أصيلة. يُشبه هذا قليلًا قراءة جيرارد مانلي هوپكنز أو پول لورانس دونبار أو جيمس ولدن جونسون.
المحاور: وقنينة الشرى هذه؟ لآخر اليوم أم لشحذ الخيال؟
آنــجـلـــو: قد أتناولها عند السادسة والربع صباحًا، حالما أجيئ، إنما غالبًا أتناول كأسًا منها قرابة الحادية عشر.
آنــجـلـــو: في كل بلدة عشت فيها، حجزت غرفة في فندق. أستأجر الغرفة لأشهر قليلة، أغادر بيتي في السادسة، وأحاول أن أبدأ العمل عند السادسة والنصف. لأكتب؛ فأنا أضطجع على السرير عرضيًا، ولهذا فإن هذا المرفق خشن جدًا، مغطى تمامًا بالثفن في نهايته. لا أسمح مطلقًا للعاملين في الفندق بتغيير أغطية السرير، لأنني لا أنام هناك مطلقًا. أظل حتى الثانية عشر والنصف أو الواحدة والنصف بعد الظهر، ثم أعود إلى بيتي وأحاول أن أتنفس. أنظر للعمل حوالي الخامسة، أتناول عشاءً منظمًا – عشاء ملائم، هادئ وجميل- ثم أعود للعمل في الصباح التالي. أحيانًا في الفنادق، أدخل الغرفة فأجد ورقة على الأرض تقول: «عزيزتي الآنسة آنجلو، دعينا نغيّر الشراشف، نعتقد أنها متعفّنة». لكنني لا أسمح لهم إلا بتفريغ سلّة المهملات. أُصر على أن تزال كل الأشياء عن الحائط، لا أريد شيئًا عليه. أدخل الغرفة وأشعر كأن كل معتقداتي معلّقة، لا شيء يربطني بشيء.
لا حلّابات، لا زهور، لا شيء. أريد أن أشعر فقط، ثم حين أبدأ الكتابة سأتذكر. أقرأ شيئًا، ربّما المزامير، أو ربّما مجدّدًا أقرأ شيء للسيد دنبار، جونسون، فأتذكر كم اللغة الإنگليزيّة طيّعة وجميلة، كيف تمنح نفسها إذا ما سحبتها فتُجيب: «حسنًا.»، أتذكّر هذا وأشرع في الكتابة. يقول ناثانيل هوثورن: «القراءة اليسيرة تتطلّب كتابة مُجهدة وعسيرة» أحاول جذب اللغة إلى هذا الوضوح الذي يجعلها أخّاذة. بالطبع تبدو سهلة، لكنها تستغرق مني الأبديّة حتى تبدو هكذا! بالطبع يوجد هؤلاء النقّاد –نقاد نيويورك تايمز نموذجًا- الذين يقولون: «حسنًا، مايا آنجلو أصدرت كتابًا جديدًا، كتاب جيد بالتأكيد، لكنها كاتبة عاديّة.» هؤلاء من أريد أن أجذبهم بحناجرهم وأطرحهم أرضًا، لأنني قد استغرقت الأبدية لأجعل اللغة تغنّي، فأنا أعمل على اللغة.
مثل هذا المساء، لو توجّب علي كتابته من وجهة نظري، بمراقبة القاعة، سأرى المقاعد المستعملة البالية، المغطاة بمخمل له لون الأحمر الصدئ، مع بهتان في المكان الذي تحتك فيه أظهر الناس بالمقعد، الأمر الذي أعطاه لونًا برتقاليًا باهتًا. ثم ألوان وجوه الناس الجميلة، الأبيض، والأقهب، والأزهر، والحنطي، الأسمر والقمحي. علي النظر إلى كل هذا، إلى كل الوجوه وطريقة مكوثها على الرقاب. عندما أنتهي من الكتابة، بعد أربع أو خمس ساعات في غرفتي، قد يبدو النص هكذا: «ما كان على السجادة، فأرًا وليس قطة، هكذا ببساطة!» لكنني أستمر في اللعب مع النص، أجذبه وأقول: أنا أحبك. تعال إليّ، أحبك. قد أستغرق أسبوعين أو ثلاثة لأصف ما أراه الآن فقط.
المحاور: كيف تعرفين أن النص وصل إلى ما تريدين؟
آنــجـلـــو: حين يكون أفضل ما يمكنني كتابته، قد لا يكون أفضل ما هناك، ربما يكتبه كاتب آخر بشكل أفضل مني بكثير، لكنني أعرف حين يكون أفضل ما يمكنني كتابته. أعرف أن أعظم المهارات التي يكتسبها الكاتب قدرته على قول: «لا، لا. لقد أتممتها. وداعًا الآن.» ويترك النص وحيدًا. لن أُرهق الفكرة وابتذلها كتابةً، لن أحرقها، لن أفعل هذا.
المحاور: كم عدد المراجعات المعقودة للنص؟
آنــجـلـــو: أكتب في الصباح، ثم أعود إلى بيتي منتصف النهار تقريبًا، وأستحم، لأن الكتابة كما تعلم عمل شاق للغاية لهذا تحتاج إلى غسل مضاعف. ثم أخرج وأتسوّق، أنا طباخة ماهرة، وأتظاهر بأنني طبيعيّةـ أتصرف بعقل؛ «صباح الخير! بخير، شكرًا لك، ماذا عنك؟» ثم أذهب إلى البيت، لأُعدّ العشاء لنفسي، وإذا ما كان لدي ضيوف، أوقد الشموع وأشغل موسيقى جميلة وما إلى ذلك. ثم حينما تُرفع كل الأطباق، أقرأ ما كتبت ذلك الصباح، وغالبًا إذا كتبت تسع صفحات، قد أتمكن من الاحتفاظ بصفحتين ونصف أو ثلاث. هذا هو الوقت الأقسى؛ أن تعترف حقًا بعدم صلاحية النص، وتُنقّحه. ليس الأمر سيئًا جدًا؛ إذا انتهيت من قرابة الخمسين صفحة –خمسين صفحة مقبولة- وقرأتها. لدي المحرّر ذاته منذ 1967م. قد قال لي أو سألني مراتٍ عدة خلال سنوات: «لماذا تستخدمين الفاصلة المنقوطة بدلًا من الفاصلة؟» ومراتٍ عدة خلال هذه السنوات قد قلت له أشياء مثل: «لن أتحدّث إليك مُجدّدًا، للأبد، دائمًا. انتهينا، شكرًا جزيلًا.» وغادرت. ثم قرأت القطعة وفكّرت في اقتراحاته، وأرسلت له برقيّة تقول: «حسنًا، إذًا أنت محقّ. ماذا أيضًا؟ لا تذكر لي هذا أبدًا، إذا فعلت، فلن أحدثك مرة أخرى.» قبل سنتين، خلال زيارتي له ولزوجته في «هامپتونز»، كنت على طرف طاولة حجرة طعام بعشاء لقرابة أربعة عشر شخصًا، من هذا الطرف قلت لأحدهم أنني أرسلت له برقيات على مر السنين، فقال من الطرف الآخر: «وقد احتفظت بها واحدةً واحدة!» مسخ! لكن التحرير الذي يقوم به الكاتب لنفسه، قبل أن يرى المحرّر النص، هو الأكثر أهميّة.
المحاور: أصدرتِ خمسة من كتب السيرة الذاتيّة، في تتابع زمني، عندما بدأتِ بكتابة: «أعرف لماذا يغنّي الطائر الحبيس - I Know Why the Caged Bird Sings» هل كنتِ تدركين أنكِ ستنطلقين منه؟ يبدو أنه يعمل تمامًا سطرًا إلى سطر مع الكتاب الثاني.
آنــجـلـــو: أعرف، لكن لم أتعمّد هذا في الحقيقة. اعتقدتُ أنني سأكتب «الطائر الحبيس» ولا شيء آخر، وسأعود بعده إلى كتابة المسرحيات والمواد التلفزيونيّة. السيرة الذاتيّة مغرية جدًا، إنها عجيبة. حين شرعت فيها أدركت أنني أتّبع تقليدًا أسّسه فريدريك دوغلاس –في سرد الرقيق-؛ التحدث بضمير المتكلّم قاصدًا ضمير المتكلمين، قول أنا دائمًا بمعنى نحن، يا للمسؤولية! أن تحاول العمل مع هذا الجنس الأدبي، نمط السيرة الذاتيّة، أن تحاول تغييره؛ جعله أكبر وأغنى وأرق وأكثر شمولًا، في القرن العشرين، لهو تحدّ عظيم بالنسبة لي. لقد كتبت خمسًا منها حتى الآن –وقد صارت ضمن القراءة الإلزامية في العديد من الجامعات والكليّات في الولايات المتحدة الأميركيّة- وأتمنى حقًا أن تقرأ الناس أعمالي. أعظم اطراء أتلقاه، أن يتوجّه الناس إلي في الشوارع والمطارات فيقولوا: «آنسة آنجلو، كتبت كتابك السنة الماضية، وحقًا ... أعني حقًا قرأته!» هذا فقط، أن الإنسان قد تلقى العمل بجديّة شديدة، بشمول، إلى درجة أنه أسود أو أبيض، ذكر أو أنثى، يشعر بها، بأنها قصّته، وأنه قصّها. لم أسعى لهذا، لكنه اطراء عظيم. في الأصل لم أتوقع أنني سأُكمل مع هذا النوع، اعتقدت أنني سأكتب كتابًا صغيرًا سيكون جيدًا، ثم سأعود إلى الشعر وكتابة بعض الموسيقى.
المحاور: ماذا عن نشأة الكتاب الأول؟ من الأشخاص الذين ساعدوكِ في تشكيل تلك الجمل الأخّاذة؟
آنــجـلـــو: آه، حسنًا. لقد بدأت قبل سنوات عدّة، قبل أن أكتب مُطلقًا، عندما كنت صغيرة جدًا. أحببت القس الأميركي الأسود، وأحببت النغم، الصوت والصورة الغنيّة جدًا والمستحيلة تمامًا. القس في كنيستي في أركانساس، عندما كنت صغيرة جدًا، استخدم عبارات مثل: «خرج الرب، الشمس أعلى كتفه اليمين، والقمر مستقر في كفه ...» لقد أحببتها حقًا، وأحببت الشعراء السود، وأحببت شكسبير، وإدغار آلان پو، كما أعجبني ماثيو آرنولد كثيرًا، وما زال يعجبني.
قد قرأت وحفظت الكثير؛ كوني صامتة لعدد من السنوات، لذا لكل هؤلاء الناس تأثير هائل في الكتاب الأول وحتى أحدث كتبي.
المحاور: صامتة؟
آنــجـلـــو: اغتُصبت وأنا صغيرة جدًا، حينها أخبرت أخي باسم المغتصب، فقُتل في غضون أيام. بتفكيري الطفولي –كنت في السابعة والنصف- اعتقدتُ أن صوتي قد قتل المعتدي؛ لهذا توقفت عن الكلام لخمسِ سنوات. طبعًا كتبتُ عن هذا في «الطائر الحبيس».
المحاور: متى قرّرتِ أنكِ ستصبحين كاتبة؟ هل قلتِ لنفسكِ في لحظة، فجأةً: هذا ما أود فعله بقيّة حياتي؟
آنــجـلـــو: حسنًا، لقد كتبت مسلسل تلفزيوني لمحطة «پي بي إس»، وكنت ذاهبة إلى «كاليفورنيا». اعتقدتُ أنني شاعرة وكاتبة مسرحية، وأن هذا ما سأكونه لبقيّة حياتي، أو سأكون شهيرة بصفتي سمسارة عقارات، لكن جيمس بالدوين أخذني لعشاء مع جولز وجودي فيفر في أحد المساءات، يبدو هذا حشرًا للأسماء، وهو كذلك حقًا. كل هؤلاء الثلاثة متحدّثين عظماء. واصلوا حكاياتهم، وكان علي أن أُصارع من أجل حقي في لعب الدور جيّدًا، كان علي أن أرغم نفسي أيضًا على قول بعض القصص. حسنًا، في اليوم التالي جودي فيفر استدعت بوب لومين، محرّر في راندوم هاوس، وأشارت إلى أنه لو استطاع اقناعي بكتابة سيرة ذاتيّة، سيحصل على شيء مهم. لهذا اتصل بي وقلت لا، مهما تكن الظروف. لن أكتبها بالتأكيد! ثم ذهبت إلى كاليفورنيا، لأُنتج هذا المسلسل عن ثقافة الإفريقيين والأميركيين السود. اتصل بي لوميز هناك حوالي ثلاث مرات، قلت لا في كل مرة. ثم تحدّث إلى جيمس بالدوين، أعطاه جيمي حيلة طالما نجحت معي. في الاتصال التالي، قال: «حسنًا، آنسة آنجلو، لن أزعجكِ مُجدّدًا. من الجيد أنكِ لم تحاولي كتابة هذا الكتاب، لأن كتابة سيرة ذاتيّة بصفتها أدبًا مستحيلة بالتأكيد.» فقلت: «عمّ تتحدث؟ سأكتبها!» مع هذا لستُ فخورة بقول هذا، لستُ فخورة بوجود الزر الذي يُمكن أن يُضغط فأقفز فورًا على إثره.
المحاور: هل تختارين تيمة سائدة لكل كتاب؟
آنــجـلـــو: أحاول أن أتذكّر بعض الأوقات في حياتي، أي أحداث كانت لها تيمة سائدة من القسوة، أو اللطف، أو السخاء، أو الحقد، أو السعادة، أو البهجة. ربّما أربعة أحداث في الفترة التي سأكتب عنها، ثم أختار ما يهب نفسه بشكل أفضل لأسلوبي، ما أستطيع كتابته بصفة الدراما دون السقوط في الميلودراما.
المحاور: هل كتبتِ لجمهور معيّن؟
آنــجـلـــو: اعتقدتُ في وقتٍ مبكّر أنني إذا استطعتُ كتابة كتاب للفتيات السود، سيكون جيدًا، لوجود كتب قليلة جدًا تقول للفتاة السوداء عندما تقرأها ما يعنيه أن تكبر. ثم فكّرت؛ حري بي، كما تعلم، أن أوسِّع الشريحة، أعني الشريحة المستهدفة التي أحاول بلوغها. قرّرت أن أكتب للأولاد السود، ثم للبنات البيض، ثم للأولاد البيض. لكن مهارتي هي ما أحاول أن أحتفظ بها غالبًا في البال. هذا ما أسعى حقًا لأجله: أحاول أن أتيح لنفسي أن يسيّرها فنّي –إذا لم يبد غريبًا أو مبالغًا فيه بشدة- أقبل بالدافع، ثم أبذل قصارى جهدي لتوظيف المهارة. إذا شعرتُ بأنني محبطة، وفقدت السيطرة، فكّرت في القارئ، لكن من النادر أن أفكر بالقارئ حين يسير العمل.
المحاور: إذًا؛ لا تفكّرين بقارئ معيّن عندما تجلسين في غرفة الفندق وتشرعين في الكتابة أو التأليف، تفكرين بنفسكِ فقط.
آنــجـلـــو: نعم، أفكّر بنفسي، وقارئي. سأكون كاذبة أو منافقة أو حمقاء، وأنا لستُ أيًا منها، لأقول بأنني لا أكتب للقارئ. أكتب للقارئ، إنما القارئ الذي يسمع، القارئ الذي يتفاعل مع النص، يذهب وراء ما يبدو أنه القول الظاهري. إذًا، أكتب لنفسي وللقارئ الذي يقدم ما عليه. يوجد عبارة في غرب أفريقيا، في غانا، تسمي مثل هذا «كلام عميق». على سبيل المثال؛ هذه المقولة: «مشكلة اللص ليست في كيفيّة سرقة بوق السيّد، إنما أين يُزمِّر به؟» يفهمها الإنسان على ظاهرها، لكن بالتفكير حقًا فيها ستأخذك إلى ما هو أعمق من هذا. في غرب أفريقيا يُسمون هذا «كلام عميق». أفضل الاعتقاد بأنني أكتب كلامًا عميقًا حين تقرأه يجدر بك أن تقول: «ربّاه! هذا جميل، هذا لطيف، هذا حسن. ربّما يوجد شيء آخر؟ من الأفضل أن أعيد القراءة.» قبل سنوات، قرأت لرجل يسمّى ماتشدو دي آسيس، الذي كتب كتاب يدعى «دوم كاسمورو». ماتشدو دي آسيس كاتب أميركي جنوبي، والده أسود ووالدته برتغالية. كتب في 1865م. وجدت أن الكتاب لطيفٌ جدًا، ثم عدت وقرأته وقلت: «هممم، لم أفطن إلى وجود كل هذا في الكتاب.» ثم قرأته مُجدّدًا، ومُجدّدًا، وخلصت إلى التأكد من أن ما فعله ماتشدو دي آسيس كان بالتأكيد حيلة. أومأ لي حتى أتبعه إلى الشاطئ، لرؤية الغروب، فرأيته مستمتعةً، وحين استدرت لأعود وجدت أن المد قد تجاوز رأسي. حينها قررت أن أكتب، سأكتب كي يقول القارئ: «هذا لطيف جدًا، يا ولد! هذا جميل، دعني أقرأه مجدّدًا.» أعتقد أن هذا السبب خلف كون الطائر الحبيس في طبعته الحادية والعشرين للغلاف المقوّى والتاسعة والعشرين للغلاف الورقي. جميع كتبي ما زالت تطبع بغلاف مقوى جنبًا إلى جنب مع الغلاف الورقي، لأن الناس تعود وتقول: «دعني أقرأ، هل حقًا هذا ما قالته؟»
المحاور: الكتب تسلسليّة، أليس كذلك؟ تمامًا كأنكِ قد جمعتِ سلسلة من القصص القصيرة. أتساءل إذا ما كنتِ، بصفتكِ كاتبة سيرة ذاتيّة، قد تلاعبتِ بالحقيقة لمجرد أن تجعلي القصة أفضل.
آنــجـلـــو: حسنًا، يحدث هذا أحيانًا. أحب عبارة «تلاعب بـ» فهي إنجليزيّة خالصة. أحيانًا أصنع الشخصيّة من تركيب ثلاثة أو أربعة أشخاص. إذ أن باطن أي شخص ليس واضحًا بما يكفي ليُكتب عنه. مع هذا، العمل قائم على الحقيقة في أصله، رغم تلاعبي ببعض الحقائق. العديد من الأشخاص الذين كتبت عنهم ما يزالون أحياءً اليوم، ما زلنا نتواجه. كتبت عن طليقي –أفريقي- في «قلب امرأة - The Heart of a Woman». قبل أن أفعل، اتصلت به في «دار السلام» وقلت بأنني سأكتب عن بعض سنواتنا معًا، فقال: «الآن، وقبل أن تطلبي، أريدكِ أن تعرفي أنني أوقّع على عدم مطالبتكِ بشيء، لأنني أدرك أنكِ لن تكذبي. إنما متأكد من حاجتي إلى مجادلتكِ حول تأويلكِ للحقيقة، على أيّةِ حال.»
المحاور: هل استمتع بصورته أخيرًا أم تجادلتما بشأنها؟
آنــجـلـــو: حسنًا، لم يجادل، كما أنني كنت طيّبة.
المحاور: أفترض أن هذا يُسهِّل عليكِ الانتقال من السيرة الذاتيّة إلى الرواية، حيث يمكنكِ فعل أي شيء بشخصيّاتكِ.
آنــجـلـــو: نعم، لكن بالنسبةِ لي فالخيال ليس بالجنس الأدبي الأخّاذ، في الحقيقة أحاول الآن أن أفعل شيئًا بالسيرة الذاتية، لقد أسرتني. أستخدم ضمير المتكلم، وأحاول أن أعبّر به عن ضمير المتكلمين، من أجل أن يتمكن أي شخص يقرأ العمل من قول: «هممم، هذه الحقيقة، نعم، آهه.» ويعيش في العمل، إنه حلم عظيم وطموح، لكنني أحببت هذا الجنس الأدبي.
المحاور: أليس من الصعب علينا مشاطرتكِ الشعور بالأحداث الاستثنائية لحياتكِ؟
آنــجـلـــو: يا إلهي! لقد عشت حياة بسيطة جدًا! كأن تقول: «نعم، في الثالثة عشر حدث لي هذا، وعند الرابعة عشر ...»، هذه وقائع بالطبع، لكن ربما تحجب الوقائعُ الحقيقةَ، تحجب ما كانت المشاعر عليه حقًا. يبذل الجميع الكثير كي ينضجوا، لكن غالب الناس لا يصلوا إلى النضج، فهذا صعب للغاية. أما يحدث فأن يتقدم أغلب الناس في السن، هذه حقيقة الأمر؛ ويقدّسون بطاقاتهم الائتمانية، ويحصلون على مواقف لسياراتهم، ويتزوجون، ويملكون الجرأة لينجبوا، لكنهم مع هذا لا ينضجون، مطلقًا، إنما يتقدمون في السن وحسب. يكلفك النضجُ الكثير. يعني النضج أن تتحمل مسؤولية الوقت الذي تقضيه والمساحة التي تشغلها. فهو مسألة مهمّة. يعني أن نستكشف ما يكلفنا حين نحب ونفقد، نجرؤ ونفشل، وحتى أكثر من هذا، أن نستكشف ما يكلفنا الأمر حين ننجح. ماذا يُكلّفنا؟ -ليست التكاليف الرمزيّة، إذ كل إنسان قادر على هذا- بل أعني ما نتكبّده في الحقيقة. هذا ما أكتب عنه، كيف يبدو الأمر حقًا. أي أنني أقصّ قصة بالغة البساطة فحسب.
المحاور: ألم تُستمالي إلى الكذب؟ الروائيون يكذبون، أليس كذلك؟
آنــجـلـــو: لا أعلم شيئًا عن الكذب بالنسبة للروائيين. حين أنظر إلى بعض الروائيين العظماء-أعتقد أن سبب عظمتهم أنهم يقولون الحقيقة- أجد أنهم يستخدمون، في الواقع، أسماء مختلقة وأشخاص مختلقين وأماكن مختلقة، لكنهم يخبرون بحقيقة الإنسان، وما يسعنا فعله، ما يخسّرنا، ويضحّكنا، ويبكّينا، ما يوقعنا ويجعلنا ننتحب، وما يجعلنا نصرّ أسناننا ونشدّ على أيدي بعضنا، ما يجعلنا نقتل بعضنا وما يحبّب أحدنا في الآخر.
المحاور: جيمس بالدوين بالإضافة إلى العديد من الكتاب، في هذه السلسلة، قالوا: «عندما تكتب فأنت تسعى إلى اكتشاف ما لا تعرفه.» عندما تكتبين، هل تبحثين عن شيء لم تعرفيه عن نفسكِ أو عنّا؟
آنــجـلـــو: نعم، فأنا أحاول عندما أكتب أن أدرك من أنا؟ من نحن؟ ما هي استطاعتنا؟ كيف نشعر؟ كيف نفقد ونقف؟ ونمضي من ظلمة إلى ظلمة. أسعى في سبيل معرفة هذه الأشياء، ومن أجل اللغة أيضًا، لأرى كيف تبدو حقًا. صدقًا أحب اللغة، لما قدّمته لنا، حيث أتاحت لنا شرح الألم والمجد، والاختلافات الرفيعة بيننا وهشاشة وجودنا، ثم أتاحت لنا الضحك، وأن نُظهر فطنتنا. الفطنة الحقيقيّة تُبدى في اللغة؛ نحن بحاجة اللغة.
المحاور: بالدوين قال أيضًا أن عائلته ألحّت عليه كيلا يصبح كاتبًا. والده شعر بأن ثمة احتكار أبيض في النشر. هل شعرتِ قط بهذه المشاعر؟ أعني أنكِ بصدد مواجهة أمر شديد الصعوبة على السود؟
آنــجـلـــو: نعم، لكنني لم أواجهها في الكتابة بدرجة عالية. لقد جابهت مثل هذا في كل ما جرّبت. في تكوين المجتمع الأمريكي يأتي الذكور البيض في القمة تليهم الإناث البيض ثم الذكور السود ثم النساء السود في القاع. هكذا الحال دائمًا: ليس أمرًا جديدًا. لكن هذا لا يعني أنه لم يصدمني ويضايقني.
المحاور: أستطيع فهم هذا في التصنيفات الاجتماعية المختلفة، لكن لماذا في الفن؟
آنــجـلـــو: حسنًا، للأسف، العنصرية منتشرة. فهي لا تتوقف عند بوابة الجامعة ولا على مسرح الباليه. عرفت راقصين سود عظماء، ذكورًا وإناثًا، ممّن أُخبروا في بداياتهم أنهم غير مؤهلين جسديًا للباليه. اليوم، نرى القليل جدًا من راقصي الباليه السود. للأسف، ففي المسرح والسينما، تقف العنصرية والجنسانيّة على الباب. أنا المخرجة السوداء الأولى في «هوليوود» وحتى أُخرج ذهبت إلى السويد وأخذت مساقًا في التصوير السينمائي حتى أفهم ما تفعله الكاميرا، بالرغم من أنني قد كتبت السيناريو، وحتى أنني ألّفت الموسيقى التصويريّة، فلم يُسمح لي بالإخراج. لقد جلبوا مخرجة سويديّة شابّة، لم تسبق لها حتى مصافحة كف شخص أسود من قبل. كان الفيلم «جورجيا، جورجيا - Georgia, Georgia.» مع ديانا ساندز. كان الناس إما نافرين منه أو مُثنيين علي. الفريقان مخطئان؛ لأنه لم يكن ما أردته، لم يكن ما كنت سأنتجه لو أُتيح لي إخراجه. ثم فكّرت: حسنًا، أظن أن علي الاستعداد لعشر أضعاف، وهذا ليس بجديد، أتمنى لو أنه كان! في كل حالة، أدرك أن علي الاستعداد على قدر يفوق نظيري الأبيض بعشر مرات.
آنــجـلـــو: طبعًا.
المحاور: بالرغم من أن ما يصل إلى طاولة المحرّر مخطوطة، لا شخص ولا جسد؟
آنــجـلـــو: نعم، يجب أن يكون لدي تحكم بأدواتي وكلماتي، التحكم الذي يمكّنني من جعل هذه الجملة أخّاذة. علي أن أتقن صقل كتابتي حد أن لا تبدو كذلك مطلقًا. أريد للقارئ، خاصةً المحرر، أن يُمضي نصف ساعة في كتابي قبل أن يدرك أنه يقرأ.
المحاور: لكن أليس هذا هدف كل شخص يجلس إلى آلة كاتبة؟
آنــجـلـــو: بالتأكيد. نعم، من الممكن أن تكون شديد الحسّاسيّة، أن تحمل شيئًا من الزَوَر، لا أعتقد أن هذا سيئًا. فهذا يبقيك يقظًا، يبقيك متأهبًا على أصابع قدميك.
المحاور: هل ثمة خيط قد يراه المرء عبر سيركِ الذاتيّة الخمسة؟ يبدو لي أن إحدى التيمات الطاغية عليها؛ محبّتكِ لابنكِ.
آنــجـلـــو: نعم، حسنًا، هذا صحيح. أعتقد أنها بارزة. أفترض –إذا كنت محظوظة- أن هذا التفصيل مرئي عامّةً. آمل أن عملي قائم على فرضيّة أننا قد نواجه هزائم عدّة، لكن يجب ألّا نُهزم. قد يبدو هذا بمثابة فضيلة مبالغ فيها، أعلم، لكنني أؤمن بأن الماس نتيجة ضغط ووقت هائل، فوقت أقل يعطي كريستال، أما وقت أقل من سابقه؛ ففحم، أقل من هذا ستحصل على أوراق متحجّرة، وأقل منه لا يُنتج سوى اتساخ محض. في كل أعمالي؛ في الأفلام التي أكتبها، والكلمات المغنّاة، والشعر، والنثر، والمقالات، أقول أننا ربما نواجه هزائم عديدة –ربّما نحن مجبرون على مواجهتها- لكننا أقوى بكثير ممّا نبدو عليه، وربما أفضل بكثير ممّا نتيح لأنفسنا أن تكون. البشر متشابهون أكثر من كونهم مختلفين. لا يوجد فيهم غموض حقيقي. كل إنسان، كل يهودي، كل مسيحي، كل مرتد، كل مسلم، كل شنتوي، كل زِنِّي بوذي، كل ملحد، كل لا أدري، كل إنسان يريد مكانًا جميلًا ليعيش فيه، يريد مكانًا جيدًا يذهب فيه الأطفال إلى المدرسة، يريد أطفالًا أصحاء، وشخصًا يحبه، يريد الشجاعة، يريد جسارة غير محدودة ليقبل الحب في المقابل. يريد مكانًا يحتفل فيه ليلة السبت أو الأحد، ومكانًا يخلّد فيه هذا الرب. ليس ثمة غموض في هذا، أبدًا. وإذا كنت قد وُفِّقتُ في أعمالي فأن هذا ما تقوله.
المحاور: هل عدتِ يومًا إلى «ستامبز، أركانساس»؟
آنــجـلـــو: قرابة 1970م. كنت أنا وبيل مويرز وويلي موريس في شأنٍ ما، وجوديث مويرز أيضًا –أعتقد أنها المُحرّضة آنذاك-. ربّما تناولنا قنّينتين أو ثلاث من النبيذ الأسكتلندي، أو سبع أو ثمان قناني. كان ويلي موريس يعمل حينها مع مجلة هاربر. بزغ حينها هذا الاقتراح: لم لا نعود جميعًا إلى الجنوب؟ ويلي موريس من «يازو – ميسيسيبي»، بيل مويرز من «مارشال – تكساس»، التي تبعد عن «ستامبز»، مسقط رأسي، بمقدار وثبة، قفزة ونطّة –على بُعد رمية سجق منها-. أحيانًا تكون هذه الفكرة حاضرة في منتصف الليل: «لمَ لا يذهب بيل مويرز ومايا آنجلو إلى يازو- ميسيسيبي، لزيارة ويلي موريس. ثم لم لا يذهب ويلي موريس، ومايا آنجلو إلى مارشال- تكساس لزيارة بيل مويرز». قلت: «عظيم!، موافقة على الاقتراحين.» ثم قالوا ويلي موريس وبيل مويرز يذهبون إلى ستامبز- أركانساس لزيارة مايا آنجلو، فقلت: «لا، أبدًا!» لن أعود إلى هذه البلدة الصغيرة مع رجلين أبيضين، لن أفعل هذا. حسنًا، بعد فترة اتصل بي بيل مويرز –كان يُنتج سلسلة حول الابداع- وقال: «مايا، هيّا. دعينا نذهب إلى ستامبز. قلت لا، مستحيل.» أكمل: «أريد أن أتحدّث عن الابداع.» قلت: «أنت تعلم، لا أريد أن أعرف أين يكمن الابداع». حقًا لا أريد، وما أزال. إحدى المشاكل في الغرب أن الناس مشغولون جدًا بوضع الأشياء تحت المجهر، وما إلى ذلك. الابداع أعظم من اختزال أجزائه. كل ما أريد معرفته أن الابداع هنا، أن بإمكاني أن أضع يدي خلف ظهري مثل توم ثومب ثم أستخرج برقوقًا. على أيّةِ حال، مضى مويرز ومضى، وكذلك جوديث، وقبل أن أدرك، وجدت نفسي في ستامبز- أركانساس، ستامبز- أركانساس! مع بيل مويرز أمام باب جدتي، ربّاه! ثم قدنا السيارة وتوجهنا خارج البلدة، أنا وبيل وجوديث. خلفنا الطاقم، طاقم نيويورك، كما تعلم، يستكشفون من أين أتيت، وهم منسجمون. قطعنا ثلاثة أميال تقريبًا خارج ستامبز فقلت: «أوقف السيارة، اكمح السيارة التي خلفنا. خذ هؤلاء الأشخاص معك وسآخذ سيارتهم.» فجأةً، أُخذت إلى كوني في الثانية عشر، في بلدة جنوبيّة صغيرة حيث أخبرتني جدتي: «أختي، لا تبقي أبدًا في طريق ريفي مع أولاد بيض.» لقد كنت أكبر بمئتي عام من فلفلٍ أسود، لكنني قلت: «أوقف السيارة.» فعلت هذا، ترجّلت من السيارة وأنا أعرف هذين الشخصين، خاصةً بيل، بيل مويرز صديق، وصديقٌ بمثابة أخ بالنسبة لي؛ يعتني أحدنا بالآخر. لكن لا بد أن تواجه تنانين ومخاوف وبشاعة الطفولة عند باب الطفولة. أمّا أي مكان آخر فآمن منها، وليس له صلة بالخوف الذي ينام على المرء يوم كان طفلًا. على أيّةِ حال، أنتجنا عرض بيل مويرز، ويبدو أنه ذو شعبية كبيرة، وهو أول برامج «الابداع».
المحاور: هل سكّنت العودة فيكِ مخاوف الطفولة هذه؟
آنــجـلـــو: إنها باقية مثل عنقاءات معلقة على جوانب مبانٍ أوربية عتيقة ومتعبة.
المحاور: ألم تتغيّر؟
آنــجـلـــو: لا، إلى الأسوأ لو تغيّر شيء.
المحاور: لكن أربعون سنة مضت قبل أن تعودي للجنوب، إلى كارولينا الشمالية. هل هذا بسبب الخوف من العثور على عنقاءات في كل مكان، كون ستامبز مجتمع تقليدي جنوبي؟
آنــجـلـــو: حسنًا، لم أشعر قط بحاجة إلى اثبات أي شيء للجمهور. أنا معنيّة دائمًا بمن أكون، من أجلي أولًا –من أجلي ومن أجل الرب- فأنا معنيّة بمن أكون حقًا. ليس صحيحًا أنني لم أذهب للجنوب لأنني لم أرغب في مواجهة أي صفعة، لأن هذا ممل وغير واقعي. هذا لا يخبرني بأي شيء، لو أنني قد علمت بأنني خائفة، لذهبت في وقت أبكر. إنما فكّرت حينها بأن الجنوب سيكون مُزعجًا. أما الآن فقد انتقلت إلى الجنوب، أعيش هناك.
المحاور: ربّما كتابة السير الذاتية، إذ تدركين نفسكِ، سهّلت عليكِ العودة أكثر.
آنــجـلـــو: أعرف أن العديدين يعتقدون أن الكتابة «تُصفّي الجو» نوعًا ما، لكنها لا تفعل هذا، إطلاقًا. إذا ما هممت بكتابة سيرة ذاتيّة، لا تتوقع أنها ستُصفّي أي شيء، صحيح أنها تجعل الأمور أكثر وضوحًا بالنسبةِ لك، لكنها لا تكسر حدّة أي شيء. ببساطة؛ تعرف سيرتك بشكلٍ أفضل، ويصبح لديك أسماء للأشخاص.
المحاور: في «الطائر الحبيس» ذكرتِ أنكِ وأخيكِ أردتما أن تؤديا مشهدًا من «تاجر البندقية - Merchant of Venice» ولم تجرئي على تأديته لأن جدتكِ عرفت أن شكسبير ليس متوفىً فحسب، بل أبيضًا أيضًا.
آنــجـلـــو: لم أعتقد أنها ستُمانع لو علمت أنه متوفى، أردت مداراتها. والدتي عرفت شكسبير بينما كانت جدتي ترعانا. عندما أخبرتها أنني أردت أن ألقي ما لدي –كان في الواقع خطاب بورشيا- قالت أمي الآن يا أخت ماذا ستقدمين؟ كانت العبارة خلّابة، هكذا: «الآن، الآنسة مارغريت ستقدّم أداءها.» أردفت أمي: «الآن، ماذا ستقدّمين يا أخت؟» فأجبت: «ماما، سأقدم نصًا كتبه وليام شكسبير.» سألت جدتي: «من وليام شكسبير هذا يا أخت؟» توجّب علي أن أخبرها بأنه أبيض، فقد كان هذا سينكشف على أية حال، أحدهم سيكشفه! لهذا أخبرت ماما بأنه أبيض لكنه متوفى، ثم قلت بأنه ميت منذ قرون، معتقدةً أنها ستُسامحه من أجل هذه الميزة الصغيرة. قالت: «لا، الآنسة المحترمة الصغيرة، لن تؤديه. لا، أيتها الآنسة المحترمة الصغيرة، لن تفعلي هذا.» ثم قدّمت جيمس ويلدن جونسون، پول لورنس دنبار، كونتي كولين، لانگستون هيوز.
المحاور: هل كانت الكتب متاحة في المنزل؟
آنــجـلـــو: ولا كتاب من تلك الكتب كان في المنزل؛ لقد كانت في المدرسة. كنت أجلبها إلى البيت من المدرسة، وقد أعطاني أخي إدغار آلان پو لأنه يعرف أنني أحبه. لقد أحببته كثيرًا. كنت أسمّيه إيپ. لكن كما قلت، كانت لدي مشكلة عندما كنت صغيرة، منذ السابعة والنصف حتى الثانية عشر والنصف، كنت صامتة. أستطيع التحدّث ولكنني لم أتحدّث لخمسِ سنوات، كنت في الحالة التي تُسمى: «خرس تطوّعي». لكنني قرأت وحفظت بكميات هائلة. لا أعرف إذا كان المرء يولد بذاكرة صورية، لكن أظن أن بالإمكان تنميتها، لكنني أمتلك ذاكرة صورية.
المحاور: ما هو المغزى من عنوان «يحتاج كل أطفال الرب إلى أحذية سفر - All God’s Children Need Traveling Shoes.»؟
آنــجـلـــو: لم أتفق قط، حتى عندما كنت شابّة، مع عنوان توماس وولف: «لن تستطيع العودة إلى الوطن مُجدّدًا.» بفطرتي لم أتفق. إذ الحقيقة أنك لن تستطيع مغادرة الوطن أبدًا. فأنت تحمله معك، فالوطن تحت أظافرك، في جريبات الشعر، وفي طريقة تبسّمك، في رحلة أردافك، وفي الممر بين ثدييك. إنه في كل جزء فيك، لا يهم إلى أين تذهب. تستطيع أن تتصنّع وتحمل توجّهات أمكنة أخرى، وتتعلّم التحدث بطرقهم حتّى، لكن في الحقيقة؛ الوطن بين أسنانك. يبحث كل شخص دائمًا عن الوطن؛ يذهب اليهود إلى الكيان الصهيوني، ويذهب الأميركيّون السود والأفريقيّون في الشتات إلى أفريقيا. يذهب الأوروبيّون والآنجلو ساكسونيّون إلى إنجلترا وإيرلندا، ويذهب الأشخاص من أصول جيرمانيّة إلى ألمانيا. إنها مطاردة شديدة الغرابة. يمكننا إذًا أن نمازح أنفسنا، نخبرها بقول: «أوه حسنًا، عزيزتي، أنا أعيش في يافا. في الواقع، أو قد نقول لها أنا أعيش في أكرا». الحقيقة واقع مستعصي. لهذا، جاء هذا الكتاب عن محاولة العودة للوطن.
المحاور: إذا كان عليكِ أن تهبي كاتبًا أكثر الأدوات ضرورةً، غير الدفاتر الصفراء، ماذا ستكون؟
آنــجـلـــو: آذان، آذان، القدرة على أن يسمع اللغة. لكن لا يوجد أداة هي الأكثر ضرورة. ... الشجاعة أولًا!
المحاور: هل شعرتِ قط بأنكِ لن تستطيعي نشر ما تكتبين؟ هل كنتِ ستستمرين في الكتابة لو أن «راندوم هاوس» قد ردّت مخطوطتكِ؟
آنــجـلـــو: لم أظن بأن الأمر سيكون سهلًا، لكنني أعرف أنني سأفعل شيئًا. السبب الحقيقي وراء وجود الناس السود اليوم، على أيّةِ حال، فمقاومتهم لمجتمعٍ أكبر يقول: «لا يمكنك فعل هذا، لا يمكنك أن تنجو، وإن نجوت، فبالتأكيد لن تنتعش، وإن فعلت، فلن تواصل بأي شغف أو عطف أو فكاهة أو أسلوب.» توجد مقولة، بل هي أغنية تقول: «لا تجعل أحدًا يُثنيك، يُثنيك. لا تجعل أحدًا يُثنيك.» حسنًا، دائمًا ما آمنت بها. آمنت بمعرفة أن لا أحد بمقدوره أن يُثنيني، لو لم أنشر، فلا بأس، سأصمّم هذا المسرح الذي نجلس فيه. نعم، لمَ لا؟ بعض الأشخاص قاموا بهذا. أتفق مع تيرنس، إذ قال: «homo sum: humani nihil a me alienum puto»؛ «أنا إنسان، لا شيء في حدود البشري قد يكون غريبًا علي.» عندما تبحث عن تيرنس في موسوعة، سترى بجانب اسمه؛ بالخط المائل، بيع إلى شيخ روماني، وحرّره هذا الشيخ. أصبح أكثر المسرحيين شعبية في روما، ستّ من مسرحياته، وهذه العبارة، قد وصلتنا منذ عام 154 ق.م. لم يولد هذا الرجل أبيضًا، ولم يولد حرًّا أيضًا، وُلِد دون أي فرصة للحصول على المواطنة، لكنه قال: «أنا إنسان. لا شيء في حدود البشري قد يكون غريبًا علي.» حسنًا، أؤمن بهذا. تشرّبت هذا واستوعبته ربّما في الثالثة عشر أو الثانية عشر، آمنت بأنني إذا وطّنت عقلي على هذا، فلو لم يُنشر لي عمل، سأكتب قطعة موسيقيّة عظيمة، أو سأفعل شيئًا متعلق بأن أصبح صديقة حقيقيّة، سأفعل شيئًا بهيًّا، ربّما مع جاري الذي ببابي، أو صديقي المحترم، أو مع عشيقي، سأفعل شيئًا مدهشًا بقدر ما أستطيع. لم أكن قط معنيّة كثيرًا بأن يخبرني العالم مدى نجاحي، فلست بحاجة إلى هذا.
المحاور: لقد ذكرتِ الشجاعة ...
آنــجـلـــو: الشّجاعة أهم الفضائل كافة، دون هذه الفضيلة لا تستطيع ممارسة أي فضيلة أخرى بثبات.
المحاور: ما رأيكِ بالكتّاب البيض الذين قد كتبوا عن تجربة السود –الصخب والعنف لفوكنر؛ The Sound and the Fury أو اعترافات نات ترنر لوليام ستيرون؛ Confessions of Nat Turner -؟
آنــجـلـــو: حسنًا، أحيانًا أشعر بالخيبة، بل غالبًا. هذا ليس عدلًا، لأنني لا أتوقع أن يكذب الكاتب حول ما يراه أو الكاتبة حول ما تراه. وهذه خيبتي، حقيقةً، خيبة أن الكاتب لا يرى أو الكاتبة لا ترى بعمق أكثر، وحذر أشد. استمتعت برؤية بيتر أو تول أو ميكيل كاين وهما يؤديان أدوار أشخاص من الطبقة الراقية في إنجلترا.
الطبقة الكادحة يجب أن تتفحص الطبقة الراقية، مُجبرة على هذا، ليتمسكوا بوظائفهم. حسنًا، يتفحّص الأميركيّون السود الأميركيّين البيض، لقرون تحت العبوديّة، يراقبون الابتسامة أو التكشيرة على وجه رجل أبيض، أو تدفق يد على امرأة بيضاء قد تُخبر شخص أسود أنه على وشك أن يُباع أو يُجلد. لهذا، فقد تفحّصنا الأميركيّين البيض، بينما لم يكونوا مُجبرين على تفحّصنا. لهذا يبدو غالبًا كما لو أن الكاتب ينظر عبر زجاج في العتمة. دائمًا ما أحزنتني، قليلًا، هذه الرؤية الرديئة، حسنًا ليس قليلًا!
المحاور: يمكنكِ التقاطها في وهلة، إذا ...
آنــجـلـــو: نعم، نعم! يوجد البعض منهم ممّن يُبهج ويُعلِّم، أفضل كثيرًا مما ذكرت. ترى، بالنسبة لي، عندما تتحدث كاتبة مثل إيندا ست. فنسنت ميلاي بعمق شديد عمّا يعنيها، لنفسها، دون أن تمنحنا أي إيثار. ثم حينما أنظر من خلال عينيها إلى الكيفيّة التي ترى بها أسود أو آسيوي، يُضاء قلبي. لكن العديد من الكتاب الآخرين ليسوا مثلها، فقد خيّبوا أملي.
المحاور: ما هو أفضل جزء في الكتابة بالنسبةِ لكِ؟
آنــجـلـــو: حسنًا، يمكنني قول النهاية. لكن حينما تعير اللغة ذاتها إليّ، عندما تأتِ وتذعن، حين تستسلم وتقول: «أنا لكِ، عزيزتي.» هذا أفضل جزء.
المحاور: أثناء الكتابة، لا تنتقلين متجاوزة من جزء لآخر؟
آنــجـلـــو: لا، ربّما أتجاوز عند المراجعة، فقط لأرى أي الروابط يمكن إيجادها.
المحاور: هل غالب الجهد يُبذل في تدوين الكلمات على الورق، أم في المراجعة؟
آنــجـلـــو: بعض الأعمال تسير، كما تعلم، يمكنك أن تستمر في الكتابة لثلاثة أيام، مثل أن ... أظن أن المفردة المناسبة تتدفق في إبحار، ثلاثة أيام من التدفق فقط. في أيامٍ أخرى، تكون الأمور سيئة وحسب، مجرد كدّ واسترجاع، ومحاولة لحذف العديد من واو العطف وإذا وإلى ومن وأجل ولكن وإذًا ولهذا وعلى أيّةِ حال، كما تعرف، أحذف كل هذه الأشياء.
المحاور: ثم أخيرًا، تكتبين «النهاية»، هذا كل ما في الأمر؛ ثم تتناولين القليل من الشرى.
آنــجـلـــو: حينها أتناول الكثير من الشرى!