الخميس، 21 مارس 2019

رواية قصيرة أو قصة طويلة، أم على الأرجح «نوڤيلا»؟



رغم أن الطول إحدى النتائج التي يحتمها التركيب الأدبي لهذه الأعمال، إلا أنه ليس المزية الرئيسية التي نفصل بها بين الأعمال الأدبية لتحديد نوعها. فلا يمكننا وفقًا للطول وحده أن نقرر أن هذه رواية وتلك مسرحيّة، هذه قصة قصيرة وتلك مسرحية ذات فصلٍ واحد، هذه نوڤيلا وتلك رواية وتلك قصة قصيرة. أود في هذه التدوينة أن أقدم لمحة بسيطة عن ماهيّة النوڤيلا، بداية ظهورها وتطوّرها بعد ذلك. 

من أجل فهم طبيعة النوڤيلا يجدر بنا معرفة الجنس الأدبي الأقرب الذي عاصرها، جنس الرومانس. يشير معجم أوكسفورد في تأثيل «Romance» إلى أنها مأخوذة من الفرنسية  «romanz »المأخوذة من اللاتينية «Romanicus» (روماني) لتشير إلى النصوص المكتوبة بالفرنسية. بعد الغزو النورماني لإنجلترا في القرن الحادي عشر (١٠٦٦) باتت الفرنسية، لغة النورمانيين التي تحدثوها بعد احتلالهم شمال فرنسا، إحدى اللغات الدارجة في إنجلترا، كان هنالك اللاتينية وهي اللغة الرسمية، لغة العلم والأدب الرفيع إن جازت التسمية، الفرنسية وهي لغة الطبقة الحاكمة والأرستقراطية، الكلتية فاللغة الأم لبعض السكان  بينما كانت الآنجلو ساكسونية التي تعرف الآن بالإنجليزية القديمة اللغة الأم للبعض الآخر. وبالفرنسية كتب هذا الجنس من الأدب (الرومانس) لينقل أساطير البريتون والكلتيك المتداولة شفويًا على مدى قرون إلى الطبقة الأرستقراطية المولعة بها، وقد كان يشمل كافة الأعمال الأدبية النثرية والشعرية التي تسرد وقائع بطولية غير منطقية وقعت في أزمنة بعيدة وأماكن بعيدة، تبدأ بفراق وتنتهي بلقاء، محملة بقيم الفروسية والإخلاص. ظهر جنس الرومانس في القرن الثاني عشر خلال الفترة الأدبية المعروفة بالأنجلونورمانيّة واستمر حتى احتواه جنس الرواية في القرن السادس عشر.

عنت «Romans» في الأصل «فرنسي» إذ أن الفرنسية مأخوذة من اللاتينية، اللاتينية لغة روما. في القرن الثاني عشر أصبح معناها محددًا أكثر، فباتت تشير إلى السرد. (ما تزال «Roman» حتى الآن تستخدم بمعنى رواية في الفرنسية والإيطالية والألمانية) ثم بعد ذلك خصصت لتدل على جنس سردي محدد تميزه موضوعة الفراق ثم اللقاء، الوحدة ثم الانفصال ثم الاجتماع. الميزة الأساسية للرومانس تركيبية، فيمكن أن تكون الرومانس عملًا طويلًا أو قصيرًا، شفهيًا أو نصيًا، نثريًا أو شعريًا، لكن لتكون رومانس يجب أن تتبع بناءً معينًا: وحدة تتبعها انقسام يتبعه اتحاد مجددًا. إذًا، جنس الرومانس كان السبّاق، وامتاز بخياليّته ولا منطقيّته وثيمة تحددّه، وقد كان الجنس الأدبي المهيمن في نهاية القرون الوسطى.

بينما يشير معجم أوكسفورد إلى أن مفردة  «Novel» (رواية) دخلت الإنجليزية في منتصف القرن السادس عشر من الفرنسية «Novelle» المأخوذة من الإيطالية «Novella (storia)» بمعنى )قصة( جديدة، المأخوذة من اللاتينيّة «novous» بمعنى جديد. كانت تستخدم بمعنى جديد وخبر وقصة. أي أنها عندما درجت لتعبر عن الأخبار أو القصص كانت مقاربة للمفردة العامية اللبنانيّة «خبريّة» التي تشير إلى قصة وخبر معًا. كانت تشير في بدايتها إلى قصة قصيرة أو حكاية واحدة من مجموعة حكايات، بالأخص حكايات بوكاتشيو، تمييزًا  لها عن الرومانس الذي كان جنسًا مستقلًا آنذاك. لاحقًا، في بدايات القرن السابع عشر باتت تشير إلى السرد الأدبي الطويل، ومن هنا صارت تستخدم بدلًا من رومانس لتشير إلى السرد النثري القصصي الطويل، ولم تعد تميّز الرومانس بحسب موضوعتها، فمها كان الموضوع، سواءً كان يصنّف في السابق كرومانس أم لا، فهي رواية «Novel» ما دامت سردًا نثريًا قصصيًا طويلًا، هذا في الإنجليزيّة بينما احتفظت بعض اللغات الأخرى كالإيطالية والفرنسيّة بمفردة «Roman» لتشير إلى ما تشير إليه «Novel» في الإنجليزيّة. درج استخدامها في البدء لتميّز واقعيّة ومنطقيّة هذا السرد عن لا واقعيّة ولا منطقيّة الرومانس. إذًا، في الإنجليزية انضوت «الرومانس  Romance-» والسرد القصصي المستقل في ثقافات أخرى والمعروف بمصطلح النوڤيلا - «Novella» والسرد القصصي المعروف بالرواية تحت مصطلح واحد إلا وهو رواية - «Novel» وإذا ما أراد الإنجليز أو الأميركان تمييزًا للنوڤيلا عن الرواية المعتادة سمّوها رواية قصيرة. من هنا بدأ الخلط وعدم افراد النوڤيلا بمصطلح خاص إلى وقتٍ قريب، فقد كان من يشير لها يشير لها باستحدام مفردات مستعارة من اللغات والثقافات الأخرى، «novelle» من الألمانيّة أو «nouvelle» من الفرنسيّة. وصلنا إلى هنا الآن، والخلاصة ممّا سبق أن الرومانس كان الجنس الأدبي الدارج ويتميّز بلا منطقيّته في سرد موضوعة الانفصال ثم الاتحاد، وكان يؤلف بالفرنسية التي لم تكن آنذاك لا لغة العلم ولا لغة الأدب، بل اللاتينيّة من كانت لغة الاثنان. جاءت بعدها الديكامريون، وكان يطلق على الواحدة من هذه الحكايات أو القصص نوڤيلا، وكانت تتسم بالمنطقيّة في الأحداث على خلاف الرومانس. لدى الإيطاليون كانت هنالك المصطلحات التي تشير للقصة القصيرة، والرواية، والنوڤيلا، كل واحدة أشير لها بمصطلح مستقل، والفرنسيّة والألمانيّة كذلك، بينما ظلت الإنجليزيّة متأخرة في هذا فلم يكن لديها إلا مصطلحان، الرواية والقصة، أدى تأخرها عن تخصيص مصطلح لهذا الجنس الأدبي الفريد إلى محاولتها الحاق بعض التكييف بالمصطلحين ليناسب هذا الجنس الأدبي، فهو مرة قصة طويلة ومرة رواية قصيرة، رغم أنها لا تطابق خصائص أي واحدة منهن عدا أنها تشذّ في الطول حتى نشير إلى طول أو قصر فيها يميزها عن الرواية أو القصة بخصائصها وتركيبتها المعروفة. 

نشأت النوڤيلا في القرن الرابع عشر مع «ديكامريون» بوكاتشيو. وظف بوكاتشيو تقنية «السرد أو القص المؤطِّر والإطاري (Frame narrative) التي استوحاها من العمل الأدبي السنسكريتي Panchatantra (الفصول الخمسة أو كليلة ودمنة كما ترجمها ابن المقفع إلى العربيّة)، ليست هذه التقنية تقنيةً حديثة، بل ضاربة في القدم وتعود إلى ما قبل الميلاد، أول الأعمال التي ظهرت فيها هذه التقنية ما تعرف الآن ببردية ويستكار وتعود إلى فترة الهكسوس بحسب الراجح من الأقوال. في الوقت الذي خدم فيه الأدب اللاهوت، تذرّع بوكاتشيو وصحبه من كتّاب النوڤيلا أن هذا الأدب هامشي ولا يرقى ليؤخذ بجديّة من الرقيب، فهو يستهدف النساء لتسليتهن، من خلال الشخصيات النسائيّة الساردة أو المستمعة التي فاقت وجود الرجال في تلك الأعمال، مثل الديكاميرون والهيبتاميرون وغيرها، كي يمرقون من هذه الخدمة. في بدايات النوڤيلا، كان الكتاب ينسجون نسيجهم في هذا الجنس الأدبي الجديد من خيوط الحبكات والشخصيّات والمشاهد الجانبيّة التي تدعّم القصة الرئيسية. مع هذا فسعة النوڤيلا لا تسمح بطاقم شخصيات متعددة مع افراد المجال لكل شخصيّة لتعبر عن نفسها أو يُعبّر عنها ويلاحق تطوّرها، فما فيها من شخصيات لا يعرض ولا يرى إلا من خلال عبوره حياة البطل أو الشخصيّة الرئيسيّة التي لا تكون الراوية غالبًا أو من خلال خدمته غرض السرد. تطّورت النوڤيلا وأخذت منحى جديدًا وازدهرت بشكلها الحديث في ألمانيا، نهاية القرن الثامن عشر ومطلع التاسع عشر، مع عمل غوته «سنوات تعليم فلهلم» المعني بتحديات الحياة الفنيّة في وجه الحياة البرجوازيّة، موضوعة شاعت في هذا الفن آنذاك. مع تطوّرها حافظت النوڤيلا على هذه المزيّة، مزيّة محدوديّة عرض الشخصيّات والخلفيّة التاريخيّة والزمانيّة والمكانيّة، التطور النفسي والثقافي والاجتماعي المتصل بالشخصيّة، لكنها باتت تميل إلى مسرحة أو عرض الصراع بين عازفها المنفرد المنكوب وبيئته. الزمن في النوڤيلا مضغوط على خلاف امكانية امتداد الوقت واتساعه في الروايات التقليدية. غالبًا ما كانت النوڤيلا نتاج انسلاخ أو انفصال عائلي أو ثقافي، أو عاكسة لتفكك نظام اجتماعي أو ثقافي قائم. صارت تنشأ على هامش ثقافةٍ ما أو في صدام بين ثقافتين. رغم أن الكوميديا ليست مهيمنة على النوڤيلا، لكن أحيانًا تبرز فيها نوع من الكوميديا السوداء. 

إذًا، نخلص إلى كون النوڤيلا جنس أدبي مميّز مستقلّ يمتاز بوحدة الزمن والمكان دون اهتمام بالخلفيّة الزمانيّة ولا المكانيّة ولا الثقافيّة ولا الاجتماعيّة ولا السياسيّة المتصلة بالحدث، ودون تتبع لتطور نفسي للشخصيّة ولا تعمّق. ولا أجد خاتمةً أفضل من ذكر بعض الأمثلة النموذجيّة من النوڤيلا، من الأعمال العربيّة والمترجمة: 
الأعمال العربية: عائد إلى حيفاء، قنديل أم هاشم، عرس الزين، موسم الهجرة إلى الشمال.
الأعمال العالمية المترجمة للعربيّة: الأمير الصغير، دكتور جيكل ومستر هايد، صيف كلنكسر الأخير، غرفة مثالية لرجل مريض، مزرعة الحيوان، غرفة جيوفاني، قلب كلب، فئران وجال، زنج، موت إيفان إيليتش، وترجمتي الصادرة حديثًا عن دار أثر «الفتى المفقود». لتوماس وولف.

تتميّز أعمال وولف بكثرة التفاصيل البصريّة والانطباعات. رغم عاطفيّة وولف تجاه شخصياته الرئيسية إلا إن في أعماله غياب للتعاطف مع بقيّة الشخصيات الثانويّة. التحق وولف بالجامعة وهناك وجد تشجيعًا ليبدأ مسيرته الأدبيّة مسرحيًا، فبدأ بتأليف المسرحيات وأنتجت أولى مسرحيّاته عام ١٩٢٤م. لكنه لم يحقق نجاحًا مرجوًا في المسرح، عمل بعدها محاضرًا في جامعة نيويورك. بدأ تجربته الروائية في عام ١٩٢٦م. وعمل على روايته الأولى « Look Homeward, Angel» ذات العنوان المقتبس من جون ميلتون لعشرين شهرًا، وتركها لدى محرره ماكسويل پيركنز الذي عمل على تحريرها لفترة طويلة ثم نشرها عام ١٩٢٩. منذ روايته الأولى وأعماله بمثابة سيرة ذاتيّة، فحياته المصدر الذي يستقي منه. لم يلق عمله ترحيبًا لدى أقربائه وأصدقائه الذين تعرّفوا على أنفسهم بسهولة في العمل. حيث أكثر من ٢٠٠ شخصيّة اقتبسها وولف من سكان آشڤيل وقد كان بمقدور السكان التعرف عليهم. مُنع الكتاب من التداول وكان السكان يتواصون بعدم قراءته. استقال وولف من العمل الأكاديمي عام ١٩٣٠م وذهب إلى أوروبا لمدة عام وقد عزم حينها على كتابة رواية ضخمة في مجلّدات عدّة تمتدّ من الحرب الأهليّة الأميركيّة إلى الوقت الذي عاصره، بشخصيّة رئيسيّة تكون أقل تمثيلًا لسيرته الذاتيّة من شخصيّة يوجين غانت في عمله الأول. بعد خمس سنوات من الصراع مع الفكرة أدرك وولف عجزه عن تحقيق وحدة بنائيّة للعمل. أصر محرّره، پيركنز، على أن يعود وولف إلى أسلوبه السيري السابق والاعتماد على حياته مصدرًا لأعماله. بعد عدة أشهر جمع پيركنز قصص وولف القصيرة ومقتطفات من روايته التي لم يكملها ونشرها في مجموعة قصصيّة، لكن العمل لم يلق قبولًا وهاجمه النقاد، بعدها كف وولف عن التعامل مع پيركنز، لهذا وليضع حدًا لشائعة تقول أن پيركنز يتصرف في أدب وولف كأنه مؤلف مشارك. توفي وولف وما زالت الأقوال تدور حول محرريه واعتماده الكبير عليهم لتحسين مسودّاته. عاد لاحقًا إلى منزله، في نورث كارولينا، بعد أن سامحه أفراد العائلة والأصدقاء لأول مرة منذ غضبهم عند نشره روايته الأولى التي سببت ضجّة في بلدته. توماس المولود عام ١٩٠٠م بالكاد يتذكر غروڤر الذي دائمًا ما غمر والدته الحنين إليه ولذكراه، لكنه ظل طول حياته يسعى لمعرفة المزيد حول غروڤر، محاولًا استعادة وجود غروڤر. كل جزء من هذه النوڤيلا يقدم غروڤر من منظور فرد مختلف من العائلة، عدا الجزء الأول الذي يتناول تجربة من تجارب غروڤر قد غيّرته إلى الأبد. وتنتهي بجزءٍ يتحدث فيه الكاتب عن فشله في استعادة وجود شقيقه والعثور عليه من خلال التفتيش عنه في الماضي والذكريات. حين انتهى منها قامت محررته باقتطاع جزء منها وتحريره وحذف بعض الأجزاء المتعلقة بالعنصريّة ضد السود. ونشرت بعد ذلك في مجلات أدبيّة بتغيير اسم الشخصيّة الرئيسيّة إلى روبرت. في السيرة التي كتبتها نويل لوولف قالت أن والدته حين تلقت خبر وفاة توماس بدت كما صوّرها في النوفيلا، مشغولةٍ بذكر غروڤر، وتحوّلت إلى ذكرياتها مع غروڤر ووفاته. 




للمزيد من قائمة بمائة نوڤيلا -عناوين إنجليزيّة- هنا.
تنوّعت المصادر التي كتبت منها هذه التدوينة، بعضها مقالات في مجلات علميّة وبعضها من معاجم وبعضها من أنطولوجيات أدبيّة، سأورد هنا ما تيّسر من المراجع والمصادر للمزيد من القراءة والمعذرة إذ أغفل البقيّة: