الجمعة، 31 مايو 2019

لو لم أكن معلّمة ...

مررت بسؤال يقول لو استطعتِ تغيير مهنتكِ الحالية، ماذا ستختارين؟

.Marie) Rie Cramer )


.Susan B. Anthony
.Nikos Kanarelis
جلست أفكر فلم أجدني راغبة في مهنة أخرى. ربّما أنني وُلدتُ لأكون معلّمة. أتذكّر في سن ما قبل المدرسة، حين كانت أمي تعلّمني على الحروف الهجائية في البيت، كنت بدوري أغري أخي الأصغر مني بحصّتي من الحلوى والبطاطس إذا قبل أن يلعب معي لعبة «الأبلة». لمّا كان جانب المتعة غائبًا عن شريك اللعبة فكنت مضطرة لهذه الاغراءات، فلعبتي لا تمتّع غيري حين أقف بقطعة جبس بيضاء تتفتّت من أطراف باب السطح الحديدي، أمام الباب المغلق ليكون سبّورة وخلف صندوق التفاح الكبير المصنوع من الكرتون ليكون طاولة الأستاذة فيما يجلس الطالب على عتبات الدرج خلف صندوق كرتوني متوسط الحجم متظاهرًا  في معظم الوقت بالانصات لما ألقي من معلومات. كبرت والتحقت بالمدرسة فتوسّعت دائرة اللعبة وصرت أُجلس أختي الأكبر أيضًا، وأحيانًا أخي الأكبر والأصغر إذا كانت حصّتي من تلك «المفرّحات» كافية للثلاثة، خلف الصندوق المتوسط، فلدي الآن ما يليق تدريسه بعالم الكبار! وما زال الاغراء بالحلويّات والبطاطس قائمًا للعلّة ذاتها. نغيّر الجو أحيانًا وننقل الصف في حوش المنزل الخلفي، هناك الجدار الأبيض المائل للصفرة سبّورتي والفحم طباشيري. وقد بقيت معي هذه العادة فصرت أخرج طالباتي في الأجواء الجميلة إلى ساحة المدرسة وندرس هناك على لوح فليني بغطاء بلاستيكي يقبل المسح أو سبّورة صغيرة متنقّلة. كان التفاعل شرطًا في لعبتي! أن ينصتوا وحسب ليس مرادي، أردت أن يستوضحوا ويجيبوا أسئلتي أثناء الدرس. كبرت أكثر وصرت أخجل من اللعب، لهذا أبقيت أمر استمرار لعبتي هذه سرًا، ورحت أواصل لعبها بمفردي خلف البيت، صار هدف اللعبة أن أشرح، ولا يهم إن استمع لي أحدٌ أم لا. في المدرسة كانت بعض المعلمات يتحن للطالبات شرح جزئيات من الدروس وكنت أحظى بالكثير من هذه الفرص التي تشبه لعبتي المفضلة. في المرحلة المتوسّطة بدأت بدراسة مادة مشوّقة: اللغة الإنجليزيّة، فمارست هوايتي بشكل أكثر جديّة مع أختي الصغرى وبدأت تدريسها اللغة الإنجليزيّة، هذه المرة لم أقدم مقابلًا، فقد كانت أختي الصغرى أشد حماسًا منّي في تلك اللعبة، خاصةً بوجود موقع Starfall الذي كنا نتصفحه ونلهو به معًا.في الكليّة لاحقًا كان أحد الأساتذة الأفاضل يوكل لي شرح بعض الجزئيات إذا ما استفسرت منه الطالبات، يسألني هل أفهم ما يتحدثن عنه، فأجيبه دائمًا بنعم، كنت لا أدع شاردة ولا واردة دون أن أسعى لألم بها ما أمكن، ولما كنت أجيب بنعم يقول فاخبريني ما تعرفين، وحين أنتهي ويجد أن ما قلته صائبًا وكافيًا يحيلهن إلي بعد المحاضرة. تتوجه بعض الزميلات إليّ مباشرة في بعض الأحيان، حتى من لست على وفاق معهن. أذكر في أحد المرات رأيت إحدى هؤلاء، على غير العادة ألقت علي التحية وابتسمت وذهبت، وبعد دقائق جاءت لتقول أنها صادفت شيئًا لم تفهمه وتريد منّي شرحه لها قبل الاختبار الذي سيبدأ بعد قليل. فكّرت سريعًا حينها بأنها قد تصرفت معي سابقًا بقلة تهذيب، وجاء الوقت لأريها عواقب قلة تهذيبها كيف يمكن أن تكون، لكنني لم أقدر على هذا التصرف، لا أقدر على حجب المعرفة بهذا الشكل، تركت رغبتي الانتقاميّة وقلت لأنفّذها لاحقًا بنزاهة أكثر، الآن هيّا لأشرح لها قبل أن ينفد الوقت! 

.Carolus et Maria by Marjorie J. Fay


تخرّجت من الكليّة وأنا لا أطمع في التدريس. تعاقدت للتدريس فيها بعد ذلك، وانتهى عقدي وأنا أفكّر بأنني لا أريد التدريس، تقدّمت للوظائف التعليميّة رغبة في الوظيفة ولم أكن أعرف وقتها أنني خلقت لأكون معلمة. لا أذكر بالتحديد متى أبصرت هذه الحقيقة، يخطر لي مواقف عديدة، لكنني هنا اليوم، لا أريد مهنة أخرى، وممتنّة لمهنتي، إن كنت سأستخدم يومًا عبارة «أجد نفسي في ...» فحتمًا في التعليم، أمام السبّورة، وسط طالباتي. تشرحني قليلًا المعلمة هدى حداد وهي تعبر عن انتمائها لمهنتها و محبّتها لطلَبَتها فتقول: 

«شو بعملّن إذا بحبّن وهنِّ بيحبّوني كتير،
… مش رح اتركهن لحالن، بدّي ساعدهن عَـطول،
 شو ما قالوا عنّن أهلن، أنا اللي بحكي وبقول، 
ما فينا نعلّم بالغيرة، ما فينا نربّي بالحقد، 

ما في محبّة بالغيرة، المحبّة تعطي وما تقول.»

الأربعاء، 8 مايو 2019

كنّاشة الأسبوع. -٥-


(١٩)

في أحد اختباراتي، توقّفت إحدى الطالبات عند فقرةٍ ما وقد نست اللاحقة التي يجب أن تضاف للمفردة Improve لتحوّلها من فعل إلى اسم يلائم إحدى فراغات الجمل التي ستكملها بها. حاولت تقريب الإجابة لها مرّتين ولم أنجح، لكن في المحاولتين علمتْ أن اللاحقة لن تكون er، خطر لي عندما طلبتني للمرة الأخيرة في القاعة وقالت أنها تذكر حرف m بدايتها وt في نهايتها، وبشكل مفاجئ لم يخطر لي من قبل، أن أقترح عليها كتابة المفردة بسرعة فائقة ومن دون تفكير، دون أدنى تفكير، وستخرج معها اللاحقة الصحيحة، معتمدة على ذاكرتها العضليّة. وبالفعل، كتبتها بشكلٍ صحيح Improvement أومأت لها تأكيدًا على صحة الإجابة فأشرق وجهها. (مرحبا أشواق إن كنتِ هنا!) تذكّرت هذه الحيلة لأنني ألجأ إليها دائمًا في الإملاء، حينما أكتب تمر بي مفردات لا أستطيع أن أتهجّاها لفظًا أو بالتفكير بها، لكن يدي تكتبها بانسيابيّة توقيعها لاسمي -التوقيع أيضًا من تطبيقات الذاكرة العضليّة-. ولا أعني بقولي حيلة هنا خدعة، إنما الحذق وحسن التصرف كما يرد في لسان العرب من معانيها. في المرّات التي أفكّر فيها كيف تكتب هذه المفردة أتوقف في منتصفها وقد أضعت كيف أكملها، وإذا ما كنت أقف في مواجهة السبورة وخلفي الطالبات فأنا أشعر بضغط فكرة عدم القدرة على اتمامها أمام طالباتي والحرج من ذلك وهو ما يزيد الطين بلّة، لكنني ألجأ بسرعة إلى تلك الحيلة مجدّدًا، أمسح ما كتبت لأن الاكمال على الموجود يتطلب تفكيرًا، وأعود لكتابتها بسرعة فائقة من دون تفكير ودائمًا تنجح. نقطة أخرى في ما يتعلق بالإملاء، الذاكرة البصريّة التي تتكون من تكرار رؤية المفردة مكتوبة تؤثر أيضًا، قد لا نعتاد مثلًا على كتابة مفردة معيّنة لكنها تمرّ على أعيننا كثيرًا، بالتالي نستطيع اعتمادًا على ذاكرتنا البصريّة كتابتها للمرة الأولى كتابة صحيحة، والذاكرة البصريّة هي المرجع الذي يستند عليه شعورنا بأن في الكلمة خطب ما بعدما نكتبها وننظر إليها في حال كتبناها بخطأ وشعرنا بتوجّس حيالها، وبالمناسبة لهذا السبب التعرض الكثير للأخطاء الإملائية المتكررة، مثل كتابة «أسوء» بدلًا من «أسوأ» تزيد من احتمالية كتابتنا لها بالرسم الخطأ -أقع في هذا كثيرًا، لكنني أشعر بخطبٍ ما فأعود لتعديلها- خاصةً مع حداثة التكرار

لا يعني وجود ما يسمى بالذاكرة العضليّة -وهو أمرٌ عليه اختلاف لكن لم أجد تفسيرًا يفسر به من ينكرونها الأمور التي يفسّرها وجودها- أن العضلات تمتلك ذاكرة مستقلة تخزّن البيانات، إنما عميقًا في لا وعي الإنسان يخزن مجموعة الحركات التي تقوم بها العضلات بشكلٍ متكرّر لتأدية مهام محددة، كالعزف على آلة موسيقيّة أو ركوب الدراجة أو حتى كتابة كلمة المرور لجهازٍ ما أو حساب ما. لهذا يصادف الإنسان حالات الفقدان المؤقت لكلمات المرور إذا ما توقف لبضع ثوانٍ قبل نقرها على لوحة المفاتيح مفكرًا فيها! فهي ليست في الجزء الواعي الذي تستعيد منه ما تريد بأمرٍ ما، بل في عمق اللاوعي، والذي يحرك الأصابع «على عماها» لتؤدي مهمة كتابة كلمة المرور. حتى أن محاولة تغيير العادة في كتابة كلمة المرور، مثلًا من كتابتها بيد واحدة إلى اثنتين، أو من كتابتها بيدين إلى واحدة قد يؤثر قليلًا إما بتأخير أو حتى بخطأ، أيضًا من يكتبها بيدين اثنتين سيلاحظ أن كل يد تتولّى مهمة النقر على مفاتيح محددة عادة وليست بالضرورة من مفاتيح الجهة المقابلة لها من اللوحة، أنا مثلًا أنقر بيدي اليمنى على مفاتيح مقابلة ليدي اليسرى، والعكس


(٢٠)

أحيانًا يفاجئني ذهني والآلية التي يعمل بها. استيقظت في أحد الأيام وفور استيقاظي أمسكت بهاتفي، وجدت في مجموعة بيتنا على واتساب سؤالًا عامًا من أخي لم يخصني به عن مكان مفتاح سيّارته، كانت الساعة ٥:٣٧ مساءً، كنت أنظر إلى PM بجانبها وأقول في نفسي أنه الفجر، PM تعني صباحًا، وأصرّ ذهني على هذه المعلومة الخاطئة، كان بمقدوره خداعي دون التأكيد على هذا ودون الالتفات لهذا التفصيل أساسًا. الأمر الذي يعني أن السائق قد مر المنزل ومضى منذ سبع دقائق لأنني لم أخرج له. نعود إلى سؤال أخي، حديث النفس هذا دار في ثانية ونقرت لأظهر لوحة المفاتيح حتى أخبره أن المفتاح معنا، أنا وأخي الآخر، لأنه سيقلّني إلى المدرسة فقد فاتني الذهاب مع السائق! من العدم اختلق ذهني هذه القصة ليضعني مجدّدًا في موقف مضحك


(٢١)

اعتمدت منذ فترة شاشة توقف لحاسبي المحمول تزوّدني بمفردة اليوم من اللغة الإنجليزيّة، في بعض الأيام تبدّل بين ثلاث مفردات، وفي بعضها بين خمس مفردات، وهكذا، لم تتكرّر مفردة في اليوم التالي منذ اعتمدتها، نعم تتكرّر على مدار اليوم نفسه، لكنها لا تظهر في الأيام التالية. كثيرًا ما اشتركت في نشرات بريديّة من معاجم إنجليزيّة مختلفة وحمّلت تطبيقات أيضًا بين إنجليزيّة وعربيّة كتطبيق المعاني جميعها تدور حول الأمر نفسه: مفردة لليوم بتعريفها ونطقها وأمثلةإلخ. لكن ما دامت بحاجة إلى توجهي أنا لها، فهي مثل عدمها، فأنا أنسى في مرات، وأسوّف في أخرى، فتتراكم في البريد مئات الرسائل غير المقروءة والإشارات الحمراء تستقر على زوايا التطبيقات والرقم بداخلها في ازدياد. فضولي الذي يجعلني أجري خلف أي نبتة تنبت في طريقي أو أي حشرة تهب أو تدبّ حتى أعرف اسمها مجرّبة كل التطبيقات المتوفرة يغضي عن نشرات وتطبيقات مفردة اليوم، لم يلكزني مرة قائلًا: «ريوف، لم لا تنظري إلى رسالة البريد هذه؟ هلّا نظرتِ إلى ما وراء تنبيه هذا التطبيق؟» لكنه يجعلني أضرب كفّي بالأخرى إذا ما جئت مسرعةً وبالخطأ نقرت لوحة المفاتيح لكتابة كلمة المرور قبل أن أقرأ مفردة اليوم على شاشة التوقف، أجيبه دائمًا: «آسفة، ستعاود الظهور ونراهاودائمًا ما كانت مفردات رائعة! لا أدري إن كان من الممكن العثور على مثل هذه الميزة لشاشة التوقف في كل الأنظمة، لكنها موجودة في نظام «macOS Mojave»، من «تفضيلات النظام» ثم «سطح المكتب وشاشة التوقف» ثم «شاشة التوقف» ثم اختيار «كلمة اليوم» وأهلًا بمفردات إنجليزيّة جديدة كل يوم. إذا ما كانت موجودة في أنظمة أخرى أخبرنني وأخبروني في التعليقات، لطفًا.


(٢٢)

أحب أن تحتوي تدوينّات تصنيف كنّاشة على مصادر لمحتوى متجدّد، لهذا أختم بهذه القناة وهي مفضلتي مؤخرًا على يوتيوب إذا ما كنت خالية لا أجد ما يشغل ذهني لأبحث وأقرأ عنه. قناة  Today I Found Out مواضيعها دائمًا مثيرة للاهتمام


백초충