الأربعاء، 20 يناير 2016

لماذا نحتاج الكتب الورقيّة؟

درس عملي.
لماذا نحتاج الكتب الورقيّة؟
وليام غيرالدي.
ترجمة مشتركة: يسار، وريوف خالد.

المخلص المولّع بالكتب هو ابنُ عمّ المهووس. املأ منزلك بالكتب، وستُدعى –وبموّدة- جامَع كتب، املأه بالصحف وستُدعى كانزًا. لكن لنكن صادقين: الجامعُ كانز – متميز، ونبيلُ الفِكر، لكنه كانز بنفس الطريقة.
بعد عدة صفحات أولى من رواية ‘أوراق هنري ريكروفت الخاصّة‘ لـ هنري جيسينق والتي صدرت عام 1903، نكون أمام مشهد لا يمكن لقارئ يعدّ نفسه بحقّ مولّعًا بالكتب أن يفشل في تذكّره. في مكتبة صغيرة في لندن، يقع الراوي في الرواية على طبعة أولى من ثمانٍ مجلدات لكتاب إدوارد غيبون ‘انحلال وسقوط الإمبراطورية الرومانية وسقوطها‘. ‘لكم أود إن امتلك هذه الصفحات ذات القّطع القشيب المُرقّم ولو كلفتني بيع معطفي‘. لم يكن المالُ معه، وهكذا كان عليه أن يعود إلى شقته، في الجانب الآخر من المدينة، لإحضاره. أكثر إفلاسًا من أن يتحمل نفقة الباص العمومي، وأنفد صبرًا من أن ينتظر، فإنه يقطع ضعفَ المسافة عبر المدينة سيرًا على قدميه ذهاباً وإيابًا من المكتبة جارّاً ثقل كتاب غيبون. ‘سعادتي بهذه الصفقة طردَت كل فكرةٍ أخرى. باستثناء الوزنِ، في الواقع، فقد امتلكتُ طاقة حيوية لا نهائية لكن من دون قوة بدنية. فتراني عند نهاية الرحلة على كرسي؛ أتصبب عرقأ ، متراخيًا، متوّجعًا – ومبتهجًا!‘.

هذه الإطلالة الممتعة على الحياة في بداياتِ القرن العشرين ممثلة في الرواية السير – ذاتية للكاتب الإنجليزي جيسينغ هي أيضًا تحية إجلال تفيض عاطفة في الشغف بالكتاب. يقول رايكروفت ‘هنالك كتبٌ تمثل بالنسبة إليّ حاجةً عاطفية، أكثر ضرورة من قوتِ الجسد. أستطيع أن أراها طبعًأ في المتحف البريطاني. لكن هذا ليسَ أبدًا كامتلاكها والاحتفاظ بها‘. – أن تمتلك وأن تحتقظ – ‘أن تكون ملكيتي الخاصّة، على رفّي الخاصً‘. وفي حالِ لم تعر انتباهك إلى إشارة رايكروفت،  فإنه لاحقًا يعيد ذكر ‘البهجة‘ عند إشارته إلى فترة ما بعد الظهيرة حين عثر على غيبون- ‘السعادة المُبهجة‘[1]. والبهجة حقًا هو أكثر ما يشعر به المولّع بالكتب بين كنوزه.

أؤلئك من يعيشون منّا بين جبالٍ من الكتب – بحجم جبال سييرا في غرفة، إيفرست في أخرى، هولك في المطبخ، وتلالٌ عند المدخل- أؤلئك يمكنهم أن يخبروك، بالرغم من الثقل والازدحام والمشقّة، كم يزدرون بالنعيم الخاصّ لوجودها والاحتفاظ بها أيّ حساب بنكيّ متوسط. (الكتب الجديدة ذات الغلاف المقوّى غالية الثمن حين تشتريها، ثم ينخفض سعرها بمجرد إن تفعل). وماذا بعد! مجموعة كتبك المتراكمة ستكون نياجرا قاتلة إن وقعت. وكل جامع كتب يعرف تلك القصة، والتي ربما كانت ملفقة، عن الملحن والمولّع بالكتب من القرن التاسع عشر تشارلز فالنتين ألكان الذي وجد ميتًا تحت انهيار كتبه، ومسحوقًا تمامًا حين رُفعت الرفوف من فوقه.  كمثل مدمنِ الجنس الذي يقضي نتيجة تمزّق شريانه الأبهر مع بلوغ ذروة الجمّاع، ألكان –على الأقل- ماتَ مبتسمًا.

بالرغم من أن البعض يميّز بين الببليوفيلي (المولع بالكتب) وجامع الكتب، إلا أن معجم مريام ويبستر يُصرّ على أن مفردة ببليوفيلي تعني الشخص المولع بالكتب أو الشخص الذي يجمعها أيضًا، الأمر الذي يبدو في غاية المعقوليّة بالنسبة لي –إذ لا يمكنني تصوّر من يحب الكتب ولا يجمعها، أو يجمعها ولا يحبها.- أستخدم "جامع الكتب" كما يفعل روبرتسون دافيس في مقالته "جمع الكتب": ليس بصفته شخصًا ينقّب عن الكتب النادرة والقيّمة معًا، لكن بصفته جامعًا لكل الكتب التي تقع ضمن دائرة اهتمامه. إذا تعدّدت اهتماماتك، يجدر بأن تكون لديك غُرف عديدة، وألواح أرضيّة تتحمّل أيضًا.[2]

ما معنى أن يكون ما تقتنيه جوهريًا لما تكونه؟ نشير إلى تلقّفنا اليومي لامتلاك الأشياء بالماديّة، الاستهلاكيّة، والاستنزاف. لكنني أثق بأنك ستتفق معي بأن اقتناء الكتب لا يطابق اقتناء الأحذية: يصبح الشخص الذي يقتني ألف كتاب شخصًا ترغب التحدث معه، بينما تظن أن من يمتلك ألف حذاء ينتمي إلى عشيرة الكاردشيان. ليست الكتب أشياءً مثلما أن الأحذية أشياء. هذا ما عناه ميلتون في رائعته "أريوباجيتيكا" -لا تزال الكتب ضروريّة الآن كما كانت ضروريّة في عام 1644م- عندما أكدّ أن "الكتب ليست أشياء ميّتة أبدًا، إنما تحتوي على طاقة الحياة في داخلها، لتكون نشطة بقدر نشاط الروح التي أثمرتها، لا، إنها تحتفظ كما لو في قنّينة بالفاعلية والخلاصة الأصفى للفكر الحي الذي غذّاها." طاقة الحياة، الفاعليّة الأصفى، الفكر الحي: هذه هي عناصر تحسين العالم التي تعثر عليها في أي كتاب حسن التأليف يستحق القراءة.

بالنسبة إلى العديد منّا، مقتنياتنا من الكتب بمثابة أطفالنا، على الأقل في جوهرها، حيث إنها من مظاهر هويّتنا، تجسيد لفرديّتنا؛ بمثابة تبرير لتغيّر داخلي عميق، شاعريّة، تُشكّل رؤيتنا المُحدّدة والمُمثّلة بموضوعيّة تجاه العالم. بالنسبة للقراء، فإن ما يقرأون يمثّل الأماكن التي حلّوا بها، ومقتنياتهم أدلّة على الرحلة. بالنسبة للكتّاب، فإن المكتبة الشخصيّة صندوق العدّة الذي يحتوي على حاجتهم من معدّات البناء. لا يوجد كاتب ماهر ليس أيضًا بقارئ متفانٍ. إضافة إلى أن الكتب تذكير عظيم بالمهمة الموكلة إلى الكاتب: أن يبني شيئًا يستحق أن يشغل مساحةً على تلك الأرفف، كل الأرفف، وأن تُشدّ الرحال إليه. كما أن لها وظيفة أخرى؛ فالمكتبة الشخصيّة تتنهّد مستنكرةً، كلما جلبت اللابتوب وتسكّعت من صفحة إنترنت بليدة إلى أخرى. إذا لم تكن مرتابًا في أمر كاتبٍ ليس مولعًا في الكتب، عليك أن ترتاب. [3]

قد يبدو أن للكتب قيمة ضئيلة بصفتها شيء مادي وثقافي، ربّما لاحظت هذا، وأنها تفقد قيمتها كل موسم. كما يعلم قاطنو المدينة، تجد الكتب في صناديق بداية كل شهر، مكدّسة في الأزقّة، لا يستطيع الناس اهداءها إلى أحد. ولهذا، يختار غالبية القراء البديل الإلكتروني، رفاهيّة تحميل الكتب وترتيبها، في الفضاء السيبري، حيث تظل متاحة لكنها صورية الوجود. حسنًا سأدع جيمس سالتر يطلق الانذار، كتب هذا في عام 2012م، "الموجة قادمة ومملكة الكتب، بصفحاتها البيضاء وصفحاتها الختامية الفارغة ووعدها بالعزلة والاكتشاف؛ تواجه خطر أن تُجرف بعيدًا، بعد وجود دام خمس مائة عام. قد يصبح امتلاك كتاب ورقي ليس بذي معنى."
دائمًا ما تطغى موجة أو أخرى علينا، دائمًا ما تجعل التقنية أوضاع معيّنة من الاستهلاك بالية، ويمكننا أن نمتنّ لكثير من هذا التقادم، لكن يجدر بنا، ربّما، أن نفطن إلى قلق سالتر هذا، لأن المولعين بالكتب "الببلبوفيليون" لن يُخلّفوا عراةً، وحدهم، إذا ما أُجهِز على الكتاب الورقي.

بدأت أجمع الكتب عندما كنت في الثانويّة، قرابة الوقت الذي تأكدت فيه أن الأدب سيكون حياتي، ليس بصفته احتلالًا إنما وجودًا. لقد استغرقت عقدين من ألم الظهر والنقل مستعينًا بشركة "يو-هول" حيث تنقّلت بين دزينة من البيوت عبر أربع ولايات مختلفة. كما أنني ورثت مجموعة كتب من معلم ناصح، مجموعة ضخمة بقيت مصندقة وناتئة في قبو أجدادي في نيوجرسي. لا يمكنني أن أحشر المزيد من الكتب في بيتنا في بوسطن دون أن تثور ثائرة زوجتي وأطفالي. في منتصف التسعينات عندما كان أجدادي يعيشون بالقرب من نهر الراريتان، خزّنت مئات الكتب في غرفة نوم في الطابق الأول، وعندما ابتلع النهر نصف البلدة إحدى السنوات، ابتلع كتبي أيضًا، وحين أنحسر الماء، نشرت كتبي في الخارج، على الرصيف، تحت الشمس، أعدّ خساراتي كما في قدّاس موتى.[4]

في عام 1941م. كتبت روز ماكوالي بجمال عن خسارة مكتبتها، بل شقتها بأكملها، في البليتز[5]: "تيارٌ من الخسارة، أوراق محروقة هبطت من الطابق الثالث إلى الشارع، حيث استوت في زحامٍ من بقايا رائحة الخلود." ولم أقرأ هذا المقال قط دون غشاوة الدمع على بصري.

عندما يقرأ المولع بالكتب (البيبليوفيلي) كتابًا كلاسيكيًا فإنه ينزع بحماس إلى تذكر المقاطع التي ربّما تحدثت بالصدفة عن اللهفة على الكتب، يشعر بالرضى إذ يجد بعض القرابة مع هؤلاء العظماء، أغلب ذكرياتي الباقية من قراءة اعترافات روسو، وكتاب حياة جونسون لبوزويل، وكتاب حفنة من تراب لواو، وكتاب ليل ونهار لوولف وكتاب الصعود إلى الهواء لأورويل صادف إنها للمقاطع النثريّة التي تؤكد نزعتي إلى القول بأن الحياة مع الكتب أكثر معنىً من الحياة دونها. عندما قرأتُ طفلًا كتاب "عشرون ألف فرسخ تحت الماء" أُصبت بالدوار عند ذكر المكتبة الشخصيّة لكابتن نيمو، خارج باخرته، التي تحتوي على اثني عشر ألف مجلّد. الراوي، بيريه أرونوكس، علّق بقوله لا بد أن لدى نيمو "ستة أو سبعة آلاف مؤلف" فأجابه نيمو: "اثناعشر ألف، سيّد أرونوكس، هذه هي الصلات الوحيدة التي تربطني بالأرض." أدركت كما يدرك الحيوان الموسم القادم أنه إذا كان نيمو يمتلك اثنا عشر ألف كتاب حقًا فإنني أحتاج إلى اثني عشر ألف كتاب أيضًا.

يجمع المرء الكتب لأسبابٍ شخصيّة بالطبع، لكنني أحتفظ بذكرى أحد المساءات حين رأيت كيف ينظر الآخرون إلى قوة الكتب المطويّة. في التاسعة عشر من عمري رضخت للانتقال إلى جنوب كارولاينا بسبب شتاءٍ لا يُهزم، وفي أحد الأيام جاء ضابط الشرطة إلى شقتي ليستجوبني عن نقود قد سُرقت من فتاة قد أمضيت بصحبتها ليلة، حيث اعتقدت أنني اللص وليس زميل سكنها كما تبيّن لاحقًا. كانت هنالك بصمات على الصندوق الذي سُرق منه المبلغ المالي، وسأل الضابط إذا كنت لا أمانع من الذهاب معهم إلى المركز لأخذ بصماتي، فأجبته أنني سأذهب بالطبع، وسألته أن يدلّني المكان، نظر شزرًا إلى رفوف الكتب، وقال: "كل هذه الكتب" ثم سأل السؤال الشائع سيئ السمعة، الذي يخطر لغير القراء فقط: "قرأتها كلها؟" فأجبته بأنني قد قرأت أقل من نصفها – والحقيقة أنني قرأت أقل من نصف نصفها- فقال: "حسنًا، من الواضح أنك لست اللص، شخصٌ ذكي بما يكفي لقراءة  كل هذه الكتب لن يكون أبلهًا بالقدر الذي يجعله يسرق نقود حسناء." ثم بدأ بتمرير أنامله على كعوب الكتب كما لو أنه أدرك توًا أنها قد تمنحه بعض القدرة السحريّة.[6]

لقد كان محقًّا فيما يتعلّق بالقدرة، لكن ليس فيما يتعلّق بالسحر. الحياة مع الكتب حياةٌ من البهجة، نعم، لكنها أيضًا حياةٌ من الجهد. ليس جهد سحب ثقلها في كل مرة تنتقل فيها فحسب، إنما جهد القراءة، الاستبصار، قبول ثرثرة غبطة البشر وسأمهم وألمهم، وجهد الترحيب بتحوّلات أناك الصغيرة والمزلزلة معًا، لهذا السبب كان الشرطي مخطئًا بظنه أن القراء أذكياء بالفطرة: القارئ الشغوف، على وجه الدقة، هو من يفهم إشارة سقراط بأنه ليس ذكيًا بما يكفي ولن يكون ذكيًا بما يكفي، فإن الحكيم حكيم بقدر معرفته أنه لا يعرف شيئًا وحسب. بمعنى: شخصٌ يحمل كافة الإجابات ليس له حاجة في الكتب. افترض أنطوني بورجيس مرّة أن مفردة كتاب "Book" اختصار من حروف "صندوق المعرفة المنظّمة –Box Of Organized Knowledge" الاستهلالية، وجامع الكتب يستميت لاهثًا من أجل مقاربة هذه المعرفة، يريد أن تلطمه الكتب، تحاصره، وتقيه الرصاص. كتب لي هنت عن تطويق نفسه حرفيًا بكتبه: "تحصّنت بالكتب، ضد الأسى والطقس، إذا ما هبّت الريح من ممرّ، أبحث لأرى أي ترتيب أفضل يمكّن كتبي من صدّها، عندما أتحدّث عن اتصال بكتبي، فأنا أعني هذا حرفيًا، كما أحب أن أسند رأسي إليها."

ماديّة الكتاب، حسّيته، الكتاب بصفته كيانًا يتيح لك أن تفتحه، وتدسّ وجهك وتتنفّس بين دفّتيه، أن تستكشف جوهره، يتيح لك التبادل والاتصال، هذا ما ينشده الكثير منّا في الكتاب بصفته كائنًا. يسمّى أوليفر ويندل هولمز حصيلته من الكتب ‘قصر حريمي الأدبي‘. ابتدأ أناطول فرانس مقالته القصيرة في حب الكتاب بقوله: "لا يوجد حب حقيقي دون بعض الحسيّة، لا يسعد المرء بالكتب ما لم يولع بملاطفتها."[7] أفلت القليل من الملاطفة الأبدايكيّة، لكن أبدايك كتب أكثر من مرة عن مباهج وغرائب جمع الكتب. في مقالة بعنوان: "جادّة الكتاب غير المقروء" عن كتاب "تاريخ اليابان حتى 1334م." كتب: "كيان هذا الكتاب المادّي الراسخ المنعش مُشذّب الأطراف، خطّه الجذّاب، أيقظت –مثل تعويذة بروستيّة- المشاعر التي أحسست بها حين طلبته في صباي." دع الأمر لأبدايك الفضوليّ، الحسّي دون شك، ليصف خط الكتاب بالجذّاب، ويفكّر مثل شاب احتاج أن يعرف شيئًا عن اليابان قبل 1334م.

تُعتبر رؤية أبدياك المتعلّقة بالتعويذة البروستيّة أمر جوهري للبيبليوفيليين، ليست كتبهم برهان على تطوّرهم فحسب، إنما نصب تذكاري لماضيهم، محفّزات مرئية وفوّاحة على التذكّر. قال ريكروفت، بطل غيسينغ: "أعرف كل كتابٍ لي برائحته، علي أن أضع أنفي بين أوراقه وحسب لأتذكّر كل الأشياء." تحوي رفوف جامع الكتب، المنتصبة المحترسة مثل حرّاس ببزّاتهم، قصاصات من تاريخه الشخصي، قصاصات عليه أن يجمعها ليدرك ذاته على وجه كامل، الأمر الذي يُمثّل جزءً من حافز القراءة لديه في المقام الأول، مهما يكن فحياة بصحبة الكتب باعثة على التذكّر، وفي التذكّر يكمن الإدراك. قال بورجيس: "مكتبة والدي كانت الحدث الرئيس في حياتي، والحق أنّي لم أغادرها قط." وعليه فإن كتب بورجيس تُمثّل إدّخار واتصال في آن، حبل سري عاطفي يصله بوالده. في سيرته الذاتيّة "الكلمات"، استغرق سارتر عدة صفحات من الفصل الأول مستعيدًا ولع جدّه بالكتب، وقداسة مكتبة الرجل العجوز، وكيف أن سارتر طفلًا كان يلمس تلك المجلّدات المُبجّلة الكثيرة خلسةً "لأشرّف يديّ بغبارها،" وبهذا التشريف، صقل تعلّقه بجده العزيز.[8]

رغم أن البيبليوفيليّين يقرّون سعداء بسخافة جمع كتب تفوق الأيام الممكنة لقراءتها ولا عمليّة المسألة المفرطة، إلا أن مكتبة المرء يجب أن تفوق مسألة كونها للتذكير بالماضي، وتصبح من أجل المستقبل أيضًا.[9] مكتبتك الشخصيّة، التي تكبر وتتضخم من حولك، وعدُ بتقدّم وبهجة قادمين، ترقّبٌ مُدوِّخ، تذكير بالعمل البهيج الذي ينتظرك، إشارة إلى تلك الأماكن التي سيسيح فيها إدراكك وخيالك. وهكذا يظهر عدم الفهم في سؤال غير القارئ "هل قرأت كل هذه الكتب؟" الصياغة خاطئة تمامًا، ليس هل قرأت هذه الكتب؟ إنما هل ستقرأ هذه الكتب؟ السؤال الذي يجدر أن تظل إجابته بالنفي. جامع الكتب الذي يدرك بوجع عدم كفاية حياة الإنسان، لا ينوي قراءة كل كتبه، إنما كما يقول إي. إم. فوستر في مقاله "مكتبتي" أن يجلس معها ببساطة، "مُدركًا أنها تنتظرني بحكمتها وجاذبيّتها المُدّخرة لأقرأها." بالرغم من هذا، كما يعلم فوستر، لا يجب أن يُنتفع بالكتب لتصبح نافعة.[10]

يُمكن أن تعثر على إحدى أكثر التصوّرات التي كُتبت عن المكتبة الشخصية خلودًا، في مقالة سفن بيركرت "ملاحظات من اعتراف" إذ يتحدث عن: "ذاك النوع من القراءة، الذي يمثله النظر إلى الكتب وحسب،" وعن: "السكون المُرتقب" الذي يُشكله الجلوس قبالة مكتبته: "مجرد رؤية كتبي، مراقبة هيبتها، تشابهها مع الكتب الأخرى، يملأني بحس بالمستقبل."هذا ما يفتقده من لا يجمع الكتب أو من يحمّل الكتب الإلكترونيّة؛ السكون المرتقب والحس بالمستقبل.
آسف، لكن ليس لجهاز نوك أي هيبة.

قرّاء الكتب الإلكترونيّة يخدعون أنفسهم بالاتصال، هذه الميزة المنبثقة من الماديّة التي يزيّفونها. لو صح ما عرّف به ماكس فيشر التقنية بصفتها: "مهارة ترتيب العالم دون أن يلزمنا الشعور به." فإن المرء قد يجادل في إمكانية الشعور برواية أو قصيدة من خلال قارئاتنا الإلكترونيّة. ربّما نقرأها –بالرغم من أنني وجدت أن التمرير والسحب في القارئ الإلكتروني يغري بالتجاوز، لا القراءة- إنما الشعور الحقيقي بها أمر مختلف تمامًا.

في حياتك، تمرّر وتنقر وتسحب، تتصفح الشاشات من أجل المعلومات أو من أجل الانقطاع، الشاشات التي تدفعك إلى رغبة في العجلة، لماذا تُرحّب إذًا بشاشة أخرى في حياتك؟ استدراجٌ آخر إلى العجلة والتلهية، هذا سؤال ربّما سألته لنفسك. "الفردوس المفقود" لا تتلاءم مع العجلة والتلهية، وهذا بالضبط السبب وراء كون الكتاب الورقي سيظل دائمًا، بالنسبة لبعضنا، الكفة الراجحة، لأنه يتيح لنا أن ننفرد ونجلس متّحدون بأنفسنا في صمتٍ وعزلة، في ظل الشاعريّة الضروريّة لتعزيز الخيال والتقدم. من الممكن أن يدرأ الكتاب الورقي التخمة التي تبعثها الهيمنة الإلكترونيّة التي أدخلناها إلى حياتنا، فهو لا يسمح بالسحب والتمرير والتجاوز، لا يتحدّى تركيزك بشاشة تحاول أن تبيعك ما لا تحتاج، ولا بالنوافذ المنبثقة المُشتّتة له. في القطار، وأنت تحمل نسخة ورقيّة من "الفردوس المفقود" فأنت مُجبّر على محاولة الفهم والاستمتاع، أو على التحديق غير المنقطع عبر النافذة. سُمّي كندل فاير –Kindle Fire (اقدح نارًا) لأن أمازون تدرك أننا، نحن الأمريكيّين، نستمتع بهيمنة الخيارات المثيرة غير المنتهية، نستمتع بإحراق طمأنينتنا. عند مواجهة الأعراض الأولى لصعوبة ميلتون، يمكنك أن تتنازل عن النزهة برمتها وتلهو بالتطبيقات المبعثرة.

لأستبق بعض التمتمات، وأقول أنني أدرك قيمة القراءة الإلكترونيّة ولا أرغب بأن تختفي. القارئ الإلكتروني هبة من الرب لأولئك المسافرين الذين يرغبون بحمل الملجدات الثمانية لغيبون. (بالرغم من أنك قد تتساءل إذا ما كان المسافر حقًا سينتفع بعملاق غيبون هذا وهو يتسكّع في بيئات غريبة. لألدوس هكسلي مقال مُضحك بعنوان: "كتب للرحلة" حيث كتب: "المجلدات العريضة قد سافرت معي آلاف الكيلومترات عبر وجه أوروبا وقد عادت بأسرارها غير مقروءة.) الكتب الإلكترونيّة قد دعمت صناعة النشر الضعيفة، بتقديم خيارات أسعارها زهيدة لأولئك الذين لن يدفعوا أبدًا خمسة وثلاثين دولًارًا مقابل كتاب بغلاف مقوّى. القارئ الإلكتروني يبدو في بعض الأحيان أيضًا الوسيلة الوحيدة للحصول على كتاب إذا كنت لا تعيش بالقرب من مكتبة وكانت هناك مشكلة مع وصول الخدمة البريديّة إلى مغارتك الصحراوية.

في مدرستي الأم ألقيت محاضرة مؤخرًا عن أهمية الأدب في هذا العصر الرقمي، وربّما أشرت إلى الإنترنت بشكلٍ عرضي بصفته مصحّة عقليّة يقصدها المنعزل ومبغض البشرية ليموت، لأن سيدة تسعينيّة قصدت المنصة بعدها، بأرجلٍ ثلاثة، لتعطيني جلدةً استحقّيتها. ذكرت أنه دون الإنترنت والكتب الإلكترونيّة التي دوّت عن شاشة مضاءة لما تمكنت من القراءة أبدًا، بالحال التي أصبح عليها بصرها بعد خمس وثمانين سنة من القراءة. كيف لشكوكي في جدوى الشبكة العنكبوتيّة أن يناقض هذا؟ لا يستطيع.
يمكنك أن تستحضر ببساطة الأبحاث العلميّة التي تقول أننا نقرأ بفائدة أكبر إذا ما قرأنا من ورقة، أو البيانات العصبيّة التي تبيّن أن اللمس لصيق بذكرياتنا ومحفّز لها، كيف أننا نتعلم على وجه مثمر إذا ما تظافرت حواسنا كافة، إنما ليس هذا ما يُقلق الببليوفيلي حقًا.

الفكرة، مثل العديد من الأفكار الأدبيّة التي تستحق التركيز، إستطيقيّة؛ الكتب جميلة. ما تسمعه في قلق جيمس سالتر ليس إدانة للقارئ الإلكتروني، إنما قلق من فقد الجمال. أصاب روبرتسون دافيس عندما كتب ما يلي عن الطبعات الجميلة للكتب الجيّدة: "نحن نقدّر الجمال والمظهر، ولا أعتقد أنه يجدر بالآخرين السخرية منّا لأننا نريد أن يبدو أبطالنا مُتأنِّقين." يعترف راوي غيسينق في الأوراق الخاصّة لهنري ريكروفت: "متعة قراءة "انحلال وسقوط الامبراطورية الرومانية" بالخط الفاتن والورق المناسب لهيبة الموضوع، بل مجرّد النظر إليها، يدوزن العقل". هيبة الموضوع، تذكّر هذه الصياغة وتذوّق بلاغة المجاز الأخير: الخط الفاتن لهذه الصفحات الحلوة يدوزن عقل المرء. أقدّر قلق سالتر وأتفق مع بورجيس عندما كتب معلّقا على الطبعات الجذّابة التي تصدرها "ذا فوليو سوسيتي إن لندن": "علينا أن نعيد الزهو إلى الكتب بصفتها كائنات بهيّة في ذاتها." لكن دعني أؤكد لك هذه الحقيقة: الكتاب اختراع متقن مثل الدرّاجة، والاتقان يموت بصعوبةٍ بالغة. لم تقتل السيارةُ الدراجةَ، ولن تقتل الشبكة العنكبوتيةُ الكتابَ. سيظل جمع الكتب الورقية بالنسبة لعدد لا يحصى من القراء أمر جوهري لأناهم، لالتماسهم البهجة ومحاولة اكتساب الحكمة، لروابطهم العاطفية لماضيهم وتوجّسهم النفسي من الآخرين، جوهري ليس بصفته إضافة لهويّاتنا، إنما تجسيد لهذه الهويّات. الكتب، مثل الحب، تجعل الحياة جديرة بالعيش. 




[1] لا يمكنني إلا أن ألاحظ بأن ‘البهجة‘ هي التعبير الذي نظَمَه لي هَنت عام 1823 في مقالته البيبليوفيلية ‘كتبي‘، وكذلك سومرست موم في روايته ‘حدّ الشفرة‘ حين كان يصف وقت إحدى الشخصيات مع كتاب لسبينوزا.
[2] إيجن قودهارت كتب في مذكراته ‘اعترافات يهودي علماني‘: ‘مكتبتي الخاصّة تمثّل تراكمًا أكثر من كونها مجموعة. بمعنى أنني لا أعرف تمامًا أين أجدُ كتابًا حين أحتاجه. ابدأ في البحث عن كتابٍ غي غير محله، ودونَ جدوى. تقعُ عيني على كتابٍ آخر.. التقطه وأمعن في تصفّحه‘ – هذا ما يسمى الاكتشاف بالصدفة. ومثل هذه المكافأة المجزية ما يمكن أن يحدث حين تمسك بالنسخة الحمراء الضخمة من معجم مريام ويبستر بدلًا من البحث عن التعريف عبر الانترنت، كمثل اكتشاف جوهرة لم تكن تعرف حاجتك إليها في كل مرة تختار فيها مكتبة حقيقة بدلًا من أمازون.

[3] ليس من الصعب أن نومئ متفقين مع لي هنت: ‘أكثر ما أحبه في كاتبٍ هو كونه نفسه مولًعٌ بالكتب‘ – إنها فعلًا صفة بديهية يرغبها كل قارئٍ من الكاتب.

[4] لعدة أسابيعٍ بعد الفيضان، كنتُ أتجوّل في الإنحاء بثقبٍ في صدري. لا أمانع أن يخترقني أحدٌ بمشرط إن كان سيخلصني من تلك الذكرى. وضعتُ قائمة بكلً نسخة فقدتها ونذرتُ أن أعوّضها جميعًا. نذرٌ لا يزال عليّ أن أفي به.
[5] قصف ألمانيا النازيّة لبريطانيا خلال الحرب العالمية الثانية.
[6] قبل أن يغادر الشرطي ذلك اليوم، أخبرته أن يختار كتابًأ من مكتبتي، هديةً له مقابل اهتمامه وطيبته معي، اختار نسخة ذات غلاف ورقي لكتاب غوته ‘آلام الفتى فرتر‘ ناطقًا الاسم ‘غوث‘ كما في ‘غربت الشمس the sun goeth down‘. لعقدين من الزمن ظللت أتساءل عمّا اعتقده ذلك الشرطي المسالم عن الرواية التي وفي نهايات القرن الثامن عشر أطلقت موجة صادمة من حالات الانتحار عبر الأراضي الألمانية.

[7] في الفرانسية هذه المقولة عن القراء المقصرين الذين لا يثمنون الوجود الماديّ للكتبات باعتباره عملًأ فنيًأ: ‘لا نار فيك ولا بهجة، ولن تعرف لذَة تمرير الإصابع بدهشة على الملمس المحبّب للمجلدات المضمومة بالجلد المغربي‘.
[8] تفهم هنا ما كان يعنيه أناتول بويارد حين يصف المكتبة الشخصية بـ ‘بورتريه عن الأسلاف‘ – وذلك بالضبط ما كان بورخيس وسارتر يرميانِ إليه.

[9] هنا تكتب سوزان سونتاغ في روايتها ‘عاشق البراكين‘ متحدثة عن الأعمال الفنية، ولكن أيّ جامع للكتب سيشعر بمقدار الشبّه: ‘المجموعة الشخصية الكبيرة هي تركزّ مادي، يحفّز باستمرار ويثيرٌ بإفراط. ليسّ فقط لأنه تمكن دائمًا الإضافة إليه، لكن لأنه بالفعل كثير. احتياج الجامع هو بالضبط من أجل الفائض، من أجل التخمة، من أجل الوفرة. ذلك كثيرًا جدًا – وهو بالكاد ما يكفيني.. الجمع هو دائمًا ما هو أكثر مما هو ضروري‘.

[10] يذكّرنا هذا جانبًا من حجة هارولد بلوم أن مدى عمر الإنسان هو ما يوجب أن يقرأ فقط الكتب الأفضل. ليسَ هناك ما يكفي من الوقت لأجل التوافه. ‘الفردوس المفقود‘ وحده يتطلب نصف حياة لإعادة القراءة وفهمه جيدًا. وهذا ما يعنيه نوبوكوف بقوله: ‘من الطريف بما يكفي، أن أحدنا لا يمكن أن يقرأ كتابًا فعلًا إلا بإعادة قراءته. القارئ الجيد، القارئ العظيم، القارئ الفاعل والخلّاق هو من يعيدُ القراءة‘.

هناك 4 تعليقات:

  1. شكرا لكما على هذه الترجمة الفاخرة، بعد قراءتي لهذه التدوينة ازدادت أسبابي في تغيير أرفف مكتبتي القديمة بأخرى لتتسع للمزيد من الكتب.
    وأرجوا أن أرى تدوينات أخرى قريبا.

    ردحذف
    الردود
    1. العفو، شكرًا للقراءة.
      إن شاء الله، ها هي تدوينة جديدة تُنشر اليوم.

      حذف
  2. تمنيت لو أحمل ، بعد مماتي ، إلى قبري ، كتبي التي جمعتها منذ أكثر من أربعين سنة ، لكي أعيد في عالمي الآخر ، قراءة الذي قرأت و أقرأ الذي لم تسعفني ظروفي قراءته .. الكتب نعيمي و فردوسي الذي أحرص ألا أفقده . و القراءة ولادة جديدة لي و تذكر لكينونتي المسافرة عبر الزمن في هذا الكون السرمدي الفسيح و اللانهائي ..

    ردحذف